كما الغيمة، تمطر دفعة واحدة، بعد أسابيع من الجفاف، هكذا تفيض أناملي بشوقها، وجنونها وشبقها بعد طول انقطاع وصمت وتجاهل لمحاولاتي البائسة في عصر ريقها عن جملة واحدة فقط، ولو جملة واحدة!
لا أفهمها تلك العاصفة التي إن مرّت أطاحت في لحظات بكلّ أولوياتي، وجرتنّي أسيرة لداخلها، دون أيّ رغبة في المقاومة، بلا نيّة في التمرّد، خانعة لسطوتها خليّة خليّة، أدور فيها، أدور، أدور، أدور.. وأتمزّق، وأتطاير أشلاء في كلّ مكان، ترتطم بما لم تنتبه له في حالة وعيها التامة! وتصيبها_رغم كلّ الخراب، ورغم كلّ الكآبة_حالة من السعادة! تشبه تلك التي تصيب الدراويش وهم يدورون حول أنفسهم في حالة تصوّف تأخذهم إلى أبعد مما نرى، وأبعد مما نحسّ..
لا أستطيع ترويضها، هي الفرس الجامحة، الشبح اللعوب..تأتي متى شاءت، وترحل دون سابق إنذار، وتطيل الرحيل أحياناً، فأقسم بيني وبيني أنّها لن تعود، وأنّها هجرتني لا محالة أنا الفتاة العاديّة حتى الملل!
وفي كلّ مرّة أفقد فيها الأمل، تعود، على حين بغتة تعود، وتشتعل أطراف أناملي، ويرقص على رؤوسها اللهب، كأنّها وحيّ يفيض، أو جنّ خارج من إحدى القصص الخيّالية التي أمضيت طفولتي ألعب بين صفحاتها، وأتسلّق أغصانها المتشابكة، وأتعثّر في مصائدها، وأصاب بلعنات الساحرات اللواتي تسكنها، ثم أشفى كلما أنهيت رواية شفاء مؤقتاً، لا يطول!
لا أفهم كيف يجيد آخرون تطويعها، تلك البدائية المجنونة المفترسة، فتصير مهنة عاديّة أخرى، وعادّة يومية يقترفونها، كأنّها أرجيلة بطعم الكرز، أو فرض صلاة سادسة، أو وجبة طعام أساسيّة رابعة، أو باص مدرسة لا يخطىء موعده، أو نشرة أخبار معادة على قناة الجزيرة، أو سلام وطنيّ يبدأون فيه طابور يومهم!
الكتابة عندي، صدفة لا ألبث أن ألتقيها، فتقترفني كأنّي جريمتها الوحيدة..
فراشة تحطّ على كتفي من حيث لا أدري لبرهة قصيرة، ثم تطير وتختفي إلى حين تشاء، أو إلى حين تحنّ لبلل الحزن في جوف عينيّ، فتعود لتغسل جناحيها في مائهما!
برتقالة تقع من السماء على رأسي بعد أن يطول اشتهائي لها، فأقشرّها بأظافري بلا
سكيّن، ويسيل لعابها على يديّ، فتستيقظ كلّ حواسي، وتجتمع لتلتهم الوليمة بنهم!
الكتابة عندي، مثلك، توق لا يهدأ، لا يستكين، لا يرضى بأقلّ من أعجوبة، من رقيّة جنيّة، من رقصة غجر فوق نار تعضّ أقدامهم، من موسم ندى، وحقل عبّاد شمس، وسفر في بوح ضوء قمر على عتمة رصيف وحيد فارغ...
منذ الصّغر، أذكر.. منذ الصّغر.. كان بي ولع بالموسيقى المعزوفة في قلب الحجر، والحرف إذ يميل على الحرف حزناً أو شوقاً أو فرحاً أو مداعبة أو طرب، والكلمات تسبح في الفضاء حكاية حكاية، والمعنى يبحث عن معنى في شعر لعبته الرياح على خصر وتر، والجمل تتلو على الكون هباءها، حكمتها الخالدة، وبلا تردّد كلّ ما يدور في رأسها المكسور من أوهام أو أحلام أو شجن..
ولمّا طال بي البقاء، وصار العمر من خانتين تركض أولاهما على عجل، وتبطىء الثانية عمداً حتى تلحق بها الأولى، فيكبران معاً، طال بي أيضاً حبل الكلام، ودبّ في أوصالي الوهن..
وغداً إذ أفقد حكمة أكثر، وأصير أقلّ حياة، ستبقى خدود الورق تبتلع كلماتي التي أسكبها كبيرة من مآقي الروح، بلا خوف ولا خجل...
وستبقى أنت في بعدك، على امتداد خطّ الحبر السائل من القلم حاضراً، ولو في همزة وصل تنتظر يوماً لقياك، أو في واو عطف على الأمنيات، أو في الصّدى الذي قد يجيب يوماً ياء النداء...
فلا تنتظر يوم أشفى منك، لا تنتظر يوم أشفى من الكلمات...
وأمعن في غيابك أكثر، ابتعد لتقترب، وانأى لتدنو..
كم لن تفهم أنّ أبعد غيمة في السماء هي الأثقل بالمطر دوماً، وأن أنأى نجم في الفضاء هو الأسطع لهباً!
وإن يوماً محى وجهك الغياب كما سيفعل، وعنّت لك العودة بحثاً عن ملامح الذكريات،
فلا تعد إلا محض صدفة عابرة، محض قوس قزح أو جملة مضافة في آخر نصّ كتب على عجل...
توما
22-9-2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق