السبت، 24 نوفمبر 2012

...صوّريني...



"صوّرتيني؟صوّرتيني؟فرجيني الصورة!" تلحّ المرأة العجوز عليّ.
أهزّ رأسي بالإيجاب، وأقرّب الكاميرا منها كي ترى الصورة.
تحدّق في الكاميرا، تدور عيناها في كلّ الاتجاهات كأنها تبحث عن شيء ما.
ينحني رأسها، يتحول إلى علامة استفهام كبيرة.
ثم تدفع الكاميرا بعيداً عنها، وتنظر نحوي،
"إنتي كذابة، كذابة إنتي، ما صوّرتيني، ما صوّرتيني!"
تتضاعف تجعيدات وجهها، وتسيل دموعها على وجنتيها في أنفاق حفرها الزمان بعناية على خدّيها، تمدّ يدها إلى جانب السرير، وتشير إلى صورة داخل إطار.
أمدّ يدي، أحمل الإطار الخشبيّ الأنيق، وأتأمل الصبيّة الحسناء التي يلّف خصرها النحيف شاب جميل المحيا، أمرّ بعيني على شعرها الأسود الطويل المنهمر على كتفيها، على خطّ الكحل الغامق حول عينيها، على الأهداب المرتبة الطويلة الفاتنة، على الفستان القصير الذي يتماهى مع تضاريس جسدها، على السيقان البيضاء الرفيعة، والكعب العالي الأنيق، وأكاد أسمع صوت موسيقى يونانيّة تخرج من أبيض وأسود الصورة العتيقة!
"ماشاءالله كنت كتير حلوة وإنتي صغيرة،" أقول.
لكنني سرعان ما أستدرك "بس هلأ طبعاً أحلى!"
أعيد الصورة إلى مكانها، تصيح العجوز بي: "زيحيها، زيحيها هاي كمان، أنا مو هاي!"
لا أفهم، لكنني أبعد الصورة من جانبها وأقلبها على وجهها.
تشير لي العجوز مجدّداً: "يلا ما بدك تصوّريني؟" وتطلق ضحكة عالية،
"بس هلأ صورّيني عنجد، لا تضحكي عليّ مثل المرة إللي قبلها!" وتهزّ سبّابتها محذّرة.
أبتلع ريقي من الفزع، أحمل الكاميرا بيدي المرتبكتين، وأضغط الزر مرة تلو الأخرى، تلو الأخرى، تلو الأخرى...
وفي كلّ مرة، أقول للعجوز:
"لأ هاي ما طلعت حلوة، خلينا نعيدها.."
أو،
"مغمضة، فتحيلي عينيكي منيح وأعطيني ابتسامة يلا!"
أو،
"الشمس طالعة بنص عينك، خليني أسكر الستارة أول.."
حتى فرغت بطارية الكاميرا وانطفأت، فاعتذرت منها، وتملّصت من الورطة بوعد كاذب بالعودة غداً لجلسة تصوير جديدة وعدتني أنها ستتبرج من أجلها، وتضع حول عنقها عقدها اللؤلؤي الذي جلبه لها زوجها في ذكرى زواجهما الأسبوع الماضي من باريس.
كان زوجها قد توفي قبل عشر سنوات على الأقل، لكنه رغم ذلك لم يخلف موعده يوماً، وكان يأتي ليزورها كل مساء ويبقى طوال الليل إلى جانبها لأنها كانت تخشى النوم وحدها في السرير.
أعود إلى البيت، أرمي نفسي على السرير، أمرّر أصابعي على وجهي واحداً واحداً، أقول لها، "احفظيه، احفظيه!"
"أريد عشر نسخ منه، عشر نسخ على الأقل كي لا تضيع ملامح النسخة الأصلية..ما أقسى أن تفقد الذاكرة وجهها...".

توما
24-11-2012
  

الأحد، 11 نوفمبر 2012

...برك وحل، فقط!...




  
الحقيقة أنني منذ مدة قاطعت الموت على شاشات الأخبار الحمراء، وقررت أن أغمس عقلي وجسدي في تفاصيل الأيام الصغيرة، التفاصيل التافهة السطحية ربما _ الأكثر صدقاً بطريقة ما، لكنني لا أجد مفراً من أن أقلق على سوريا، لا لأجل عيون سوريا أو عيون السوريين بالدرجة الأولى، بل لأنّ لي أصدقاء يرفضون مغادرتها هناك، ويصرّون على البقاء رغم التهديد اليومي والخطر على حياتهم ومستقبلهم، وإذا اختفوا لعدة أيام دون خبر يطمئنني يحاصرني القلق، ويخنقني احتمال فقدان صديق آخر على قوائم القلب!
ولا أقلق على غزة، ولا يجافيني النوم قلقاً عليها، لكنني لم أجد مفراً من معرفة أخبار القصف عليها من ال"ستاتسات" الرنّانة الطنّانة على صفحات الفايسبوك، فما كان يحدث على أرض غزة وسماء غزة سيتكرر حدوثه مجدّداً اليوم وغداً وبعد غد، وفي الفترة التي ستعود الحياة فيها إلى طبيعتها غير الطبيعية في غزة سنكون قد نسينا الأمر، ونسينا العدّ، عدّ الشهداء الذين سقطوا، وفقدنا الذاكرة مجدّداً، فلكي نتذكر غزة، على غزة أن تقصف وتدمر وتتحممّ بالدم عارية على الشاشات علّها تثير انتباهنا، في الوقت الذي ليس على أيّ مغنّ هابط سوى فتح زرّين من قميصه على المسرح ليستحوذ على اهتمام حواسنا!
الواقع، أنّنا ولن أتطرّف في الحكم علينا جميعاً، ففي حزن وقلق وكلمات البعض صدق ما، لكنّ كثيرين منّا (وأنا منهم!)، ليسوا في التقوى بأفضل من مصّوري الفضائح الراكضين، المتسابقين، ليلتقطوا الحدث البشع والمنبوذ والمستهجن في وقت حدوثه، وينالوا سبقاً ما، ويعدّوا لايكاتهم على صفحاتهم الفيسبوكية، وحيواتهم الإلكترونية، فيما تنشغل المدن المنكوبة في عدّ جثثها...
ثمة علاقة طردية بين عدد الجثث وعدد اللايكات دائماً
وثمة علاقة طردية بين تفاهاتنا وكذبنا وسطحيتنا وحجم كلماتنا
وثمة علاقة طردية بين الصوت والصدى الذي يعيد نفسه فقط، ولا ينقل حجراً واحداً من مكانه!
نعم، أنا مجرد فتاة سخيفة، لا تريد إعادة تدوير قدرتها اللغوية في الحديث عن ما لا تعمل لأجل تغييره حقّاً على أرض الواقع...
أنا مجرد فتاة عادية جدّاً، همومها صغيرة، وأنانيّة، ولا يقلقها حقّاً ولا يحزنها حقّاً سوى أنّ كلّ هذا المطر يهطل في الخارج ويرتطم بالإسفلت ويصير برك وحل كبيرة، برك وحل فقط...
تماماً كما يهطل الحبّ في قلبها، ويرتطم بجفائك، ويصير برك وهم كبيرة، برك وهم فقط!

توما
11-11-2012


السبت، 3 نوفمبر 2012

...أجنحة من هواء...


ترسم على وجهها ابتسامة عريضة، تلقي على الطالبات التحية. هالة من الثقة بالذات والاندفاع والشغف تضيء حولها، رغم الرهبة التي تنشر عتمتها في داخلها والتردد وعلامات الاستفهام التي تحاصرها حول ماذا كانت تفعل بالتحديد هناك!
تحدثهن عن المستقبل، عن الأحلام، تقول لهن أشياء عن الثقة بالنفس، والطموح، والإصرار، والإيمان بالغد، وأن العمل والمثابرة أساس الوصول إلى ما نريد الوصول إليه، وتلقي على مسامعهن ترهات أخرى عن مدينة فاضلة، ومجتمع مثالي، وعالم عادل ينتظرهن بذراعين مفتوحتين وسيتنحى ليفسح لهن الطريق ما إن يخترن طريقهن...
لا تقول لهن أن العالم عبارة عن فوضى عارمة، وأنّ الحقيقة بالمقلوب، وأنّ المجتمع الذي ينتظرهن غير مهتم بأفكارهن، ولا بأحلامهن، قدر اهتمامه بنسبهن، وطبقتهن الاجتماعية، والمستوى الاقتصادي اللذي ينتمين له،  ثم بتضاريسهن الجسدية ومنسوب سذاجتهن في ضوء قدرته على استغلالهن سواء على مستوى الإمتاع البصري أو السمعي أو الحسّي المباشر!
لاتقول لهن، أنّ عليهن ألّا يبالغن بطموحاتهن، وألّا يجمحن بأحلامهن، وتسقط من اللغة الأمثال التي تقول "على قد لحافك مد رجليك" و "إللي معوش ما بلزموش" و "إرضى بالنصيب"، وتتجنب استعمال كلمات مثل "ساوم" أو "تسوية" أو "تنازل" في جمل مفيدة أو غير مفيدة!
بكلّ عدم إحساس بالمسؤولية، تقول لهن "احلمن! وتوغلن في أحلامكن!"...
بلا ذرة ضمير واحدة تخبرهن أنهن سيصلن لما يردن الوصول إليه إذا أقنعوا أنفسهن بذلك..تقول لهن: "آمنوا فقط..."
مجرد فتيات صغيرات، لا يحملن في جيوبهن أكثر من مصروف المدرسة الشحيح، أو الهواء بدلاً عنه في ذلك اليوم.
هكذا، بكلّ تصميم، تكمل تنفيذ جريمتها، تضع لهن أجنحة من هواء، وترحل!
أجنحة، ستتكسر...

توما
3-11-2012