الأربعاء، 26 يناير 2011

انتظار...



جالساً كمن لا ينتظر شيئاً، أو كمن ينتظر كلّ شيء إلا الذي يحدث له، يحادث الغبار المتراكم على سطح الطاولة أمامه، ويؤنس وحدته بملاعبة قطة شاردة تتجاهل محاولاته المثابرة على اجتذابها...
يأتي كل يوم لبضع ساعات بعد الظهيرة وأحياناً في الصباح، يجلس في نفس الزاوية التي يسبقه إليها أحياناً زوار آخرون لا يفهمون عمق ارتباطه العاطفيّ بتلك الزاوية بالذات ولا يرون ما يراه من سبب لتمييزها عن الزوايا الأخريات، فيمتعض ويجرّ رجليه وراءه في أنحاء الحديقة المحيطة بالمكان، حتى تنتهي عاهرته المقدّسة من خيانتها العلنية مع أيّ عابر طريق يدفع بدل ثمن كرامته ووقتها هي التي بلا كرامة، طالما أنّه لا يمتلك أن يحتفظ بها لنفسه تماماً، ولا يتحمّل في ذات الوقت هجرها إلى الأبد...

لم يكن يعلم اليوم ولا الساعة التي سوف تأتي فيهما، لكنّه واثق أنها يوم تأتي سوف يكون هناك، جالساً في زاويتهما بانتظارها...

*****************************************************************

قبل عامين وسبعة أشهر وإحدى عشر يوماً بالضبط، جاءت لتقول له وداعاً فقط في هذا المكان، في هذه الزاوية، على هذه الطاولة، ولا بد أن شيئاً من الغبار الذي كان وقتها مقيماً على سطحها، لا زال مقيماً هنا تحت أكوام من أجيال غبار جديدة، ولا زال يذكر تفاصيل حديثهما، وتعابير وجهيهما، وصوت الصراخ المكبوت داخله للحفاظ على أناقة الجلسة ووقار المكان، ثم صوت الريح يعصف إثر رحيلها، يوقع كرسيها الفارغ، ويكسر نوافذ قلبه شظية شظية...

يذكر..جاءت بهيئة لا تشبهها، لكنّه استطاع تمييز عطرها حتى قبل دخولها، فالتفت رأسه باتجاهها دون أن يبدي علامات تفاجؤ أو يواجه صعوبة في التعرّف إليها...كانت ترتدي جلباباً أزرقاً فاتح اللون وتغطي شعرها بشال أبيض يلفّ رقبتها الطويلة ويخفي ما مرّت عليه يوماً شفاهه وجهاً لوجه...
لم تمدّ ذراعيها لتعانقه كما تفعل دائماً، لم تنحني لتهمس لخدّه بقبلة تحكي عن شوقها، لم تعبث بشعره، أو تمرّ بيدها على لحيته الخفيفة مداعبة...
كغريبة جلست وطأطأت رأسها كطفلة صغيرة تخبىء عينيها اللتين لا تجيدان الكذب، وتفضحان جرمها الكبير أو الصغير في خيانة علنية لنفسها!

تجاهل كلّ شيء، وبدأ حديثاً عادياً مملاً عن كيف حالها، وكيف حال أهلها، وحال كلّ الذين لا يهمّه أمرهم، وعن أحوال عملها ودروس اللغة الإسبانية التي لا يفهم حتى الآن سبب انتسابها لها!
إجابات مختصرة لا تفلح في تحطيم الجليد الذي كان تنمو مخالبه على أطراف أنامله، ولا تطفىء ألسنة اللهب التي تأكل قلبه قطعة قطعة...
كأس ليمون لها، وفنجان قهوة سادة له، وسيجاراتان إحداهما لم تشتعل...
بطيئاً، بارداً، صامتاً رغم كلّ الكلمات، خانقاً رغم الريح، مرّ الوقت...



خيطا دموع من طرفيّ عينيها كانا كلّ ما يلزم ليشفعا لها، لكنهما لم ينهمرا...
كان عليها أن تذهب، أو هكذا قالت له في الوقت الذي كان هو فيه منشغلاً بلملمة أشلاء الذكريات التي راحت ضحية مجزرة جماعية في بضع لحظات من القصف المستمر على كوكب خارج المجموعة الشمسية كان يسكنه شخصان هاربان من الكرة الأرضية، وقوانين الجاذبية، وكلّ الآلهة والأصنام، والحقائق والمسلّمات....
على الطاولة الحجرية، تركت له بطاقة دعوة لحفل زفاف، دعوة لسيّد محترم يشبه اسمه اسمه تماماً في كلّ الحروف، صديق العروسين العزيز، للحظة تساءل من يكون ذلك الغريب المدعو إلى عرسها هي؟!
بطاقة دعوة لحفل فرح لا يعنيه كان كلّ ما تبقّى له، تذكرة مجانية للعودة للواقع، حكم بالإعدام لخياله المتطرّف، وفرصة جديدة ليبدأ من نقطته المفضّلة، نقطة الصّفر...



تفاصيل لقائهما الأول، ليست بذات أهمية، فلم يكن أكثر من لقاء عابر يخلو من دراما المسلسلات التلفزيونية، وخيال الأفلام الهوليوودية الجامح...تفاصيل قصتهما لا تتفوق على تفاصيل أيّ قصة حبّ أخرى في التشويق والإثارة والملل أحياناً أيضاً، الأمر فقط أنّ الحبّ بالتحديد ربما يكون الموضوع الأكثر استفزازاً للعواطف البشرية والمادة الكيميائية الأكثر عبثاً بالنواقل العصبية، رغم قدمه وتكرار سيناريوهاته، وفشله الأبديّ في تقديم مبررّات منطقية لوجوده...لكنّه ربما ولهذا السبب بالذات، ينجح في كلّ مرة بإيقاظ الفضول الكامن داخل كلّ منّا كغول أسطوريّ، وفتح شهيّتنا للحياة، الحياة كما نشتهي أن نحياها!


كان كلّ ما في الأمر، أن جوازيّ سفرهما، أنّ هويتيهما الشخصيتين، لا يمكن أن تنجحا في إيجاد أرض مشتركة، تمنح المشروعية القانونية لما يجمعهما...فهناك ما يتعدّى الحبّ هنا، وما يفوق قدراته العقلية الطفولية على استيعابه، لكنّه يوماً ما سيكبر ويفهم، هكذا يقول القدر في إحدى كتبه التي سقطت عن غيمة عابرة على رأسنا جميعاً!

كان كلّ ما في الأمر، أنّه ورث الانتماءات السياسية والدينية الخاطئة، أو ربما هي ورثت الانتماءات السياسية والدينية الخاطئة لأناس هم أنفسهم لم يختاروا انتماءاتهم، وأنّ انتماءاته وانتماءاتها المثبتين في كلّ الأوراق الرسمية، والغير قابلة للتجاهل، والتي يمكن أن تلتقي على فنجان قهوة لتشفع لجريمة قتل، أو تجد تسوية عادلة لحادثة نهب أو اعتداء، لا يمكن لها تحت أيّ شعار أن تلتقي لتبرّر "جريمة" حبّ بطريقة قانونية أو شرعية ما ترضي السماء العادلة الرحيمة الأكثر حكمة من البلاهة البشرية الفانية...

كلّ ما في الأمر أنّه حين أحبّها، أحبّها كما هي، دون حكم على طريقة تفكيرها، أو معتقداتها، أو طريقة لباسها، أو الخرافات التي تؤمن بها، أو الحقائق التي تعلن استسخافها لها، أو النظريات التي اخترعتها وتلك التي جادلته فيها وهزمته أو هزمها... وأنّها لمّا أحبّته، أحبّته كما هو، دون حكم على جنونه، على إيمانه في أحيان وإلحاده في أحيان أخرى، دون اهتمام بنظرات الآخرين المفغورة، ولا اتهاماتهم..أحبّته بلحمه الغريب عن لحمها، بدمه الغريب عن دمها، بروحه التي نمت في هيكل آخر غير الهيكل الذي تربّت فيه روحها، لتلتقيا في النهاية على أرض خارج الهياكل، أحبتّه حتى بصليبه الصّغير الذي يعلّقه حول عنقه منذ الطفولة البعيدة، والذي لا يعنيها أيّ شيء يمثّله ما دام يحميه من الأذى والعيون الحاسدة...


لكنّ الأمر هو أنّ أحدهما في النهاية كان عليه أن يفقد شجاعته، كان عليه أن يعترف بسلطة المنطق، ويمدّ عنقه للمقصلة ليقدّم رأسه قرباناً عنهما...
وكان هذا فقط كلّ ما حصل...


لا زال جالساً، يعدّ الساعات، ويغتال الأيام يوماً وراء يوم في روزنامته، في نفس المكان، في نفس الزاوية، عند نفس الطاولة، ينتظر أن تأتي، ربما حاملة طفلها الذي يحمل اسمه، كونه صديق العروسين العزيز، أو طفلتها التي تلهو بسنسال من ذهب ينتهي بصليب صغير معلّق حول عنقها، كان قد أهداه لها غريب مسح على شعرها، وقبّلها على خدها، ثم ضمّها إلى صدره كأنها ابنته الضائعة، لتحمله تميمة تحميها من الأذى ومن العيون الحاسدة...

توما
26-1-2011

السبت، 22 يناير 2011

محاطة بأعمال يديك... (إلى روح رأفت عزام)




أصحو من النوم، أرى وجهك أمامي باسماً ابتسامته العريضة تماماً كما في تلك الصباحات التي كنت تجلس فيها أمام محترفك الصغير وتنتظرني...
شعرك الرماديّ الذي يضيف شيئاً من الوقار والحزن إلى هالة الألق التي تحيط بك طال قليلاً وصار فوضوياً أشعثاً كما أحبّه...
النور في عينيك يلمع دامعاً بشيء من الشوق وشيء من الفرح...
كنت أعلم تماماً أنك لم تمت كما قالوا، كنت أعلم تماماً أن جلطة واحدة لا تكفي ليعلن قلبك استسلامه، قلبك حديقتي السرية التي كنت أتسلق جدرانها خفية لأغفو على زغب عشبها الطريّ وألعق نداه، فأنسى أنني لست سوى تلك الطفلة الصغيرة الحافية القدمين المقبلة على الدنيا بنهم، وأنّ العالم بأسره ليس سوى الجنّة التي ظنّ آدم أنّه طرد منها...
أقترب منك، أعانقك جسداً وروحاً، أين غبت عني كلّ هذا الزمن؟
تلفّ ذراعيك حولي، فأشتم رائحة "الجريب فروت" الذي كنت تعصره لي بيديك كلّما جئتك عطشة أريد أن أشرب!
أمسك يديك بين يديّ، أتلمسّ خشونتهما المقدّسة..أسأل خطوطهما المتعرّجة أيّ خلق جديد كان يشغلهما، أيّ جنون كان يسرقهما مني...
تجيبني شفتاك شعراً، تماماً كما كانتا تفعلان...لا كلمات عادية تليق بشفتيك، لا لغات بشرية كانت ترضيك..وحده الشعر لغة الأنبياء ينساب شلالات رقيقة فوق روحي فيغسلها من خطاياها ويمشّط جناحيها لتطير أعلى فأعلى...وحده الشعر كنت تريقه من فمك خمراً فأشرب وأتذّوق دماء الآلهة فأتبرّر ويتبرّر خيالي الآثم...
زجاجات الفودكا الفارغة المصطفة خلف نافذة المحترف الزجاجية لا زالت تثير فيّ رغبة عارمة بالضحك، تقف شامخة صامدة باستفزاز لهؤلاء الذين لا يجيدون الفرح ولا يجيدون الحياة، ولا ترى على ألسنتهم سوى ناراً تأكلها وعلى رؤوسهم سوى لفافات من الملل والملل والملل...
إناثك العاريات المتمددات باسترخاء في أنحاء المكان، العابثات بكرات صوف الحياة، العازفات على أوتار عودك ألحان فيروزية ودندنات تكسر ظهر الروتين اليوميّ، وتيقظ الصخب في إيقاع القلب البطيء المنتظم...إناثك اللواتي أعرفهن بأسمائهن، وأغار من كلّ واحدة فيهن غيرة الأنثى للأنثى، غيرة اللحم للحجر والخشب، غيرة الروح للنار، وغيرة البشر للآلهة..لا زلن يثرن فييّ ذات الغيرة! ولا زلن يردّدن اقتباسك المفضّل "كلّ ما لا يؤنّث لا يعوّل عليه"..كلّ يوم أؤمن أكثر أنّك محق وأنّ كلّ ما لا يؤنّث _حقّاً_ لا يعوّل عليه...

أقرأ على إحدى صنائعك التي أهديتني:
"حينما أشيخ..ستزدادين جمالاً..وسأظلّ أحبّك.."
أقرأ:
"نحلة بيضاء سكرى بالعسل..أنت تدندنين في روحي.."
أقرأ:
"لم يكن كافيّاً ما تفتّح من شجر اللوز..فابتسمي يزهر اللوز أكثر بين فراشات غمّازتين.."

أقرأ، وأصّلي أن لا تفرغ كأس قلبك من الكلمات، أن لا يصمت الشعر في روحك، أن تبقى صوت صارخ بالبريّة ينادي ألا أيّها البشر إن لم يكن الحبّ دينكم فلا دين لكم إذاً، وإن لم يكن الحبّ إلهكم فلا ربّ لكم إذاً، وإن لم يكن الحبّ سلاحكم فلا حرية لكم إذاً...
لا تزال هنا حقّاً،  روحك لم تستطع أن تغادر مكانها، وليست بشوق للقاء ربّ ما أو بقلق من عذاب أبديّ أو في لهفة لحياة أبديّة في جنّة ما لا تتفوق على قدرات خيالك خيالاً...
حرّاً كنت في حياتك، وحرّاً تبقى...بلا أوهام تقيّدك، أو قواعد تملي عليك كيف تحيا ساعاتك على الأرض وتكسر أجنحة إبداعك..القواعد تلك لم توضع لك، والأوهام لم تنزل لأجلك..وضعت لنا نحن الفانين الضائعين القليلي الإيمان، الذي يحتاجون لكتاب تعليمات كي يركبّوا قطع حياتهم، ولا يعيثوا الخراب في تكوين الطبيعة...

محاطة بأعمال يديك كنت دوماً، محاطة بأعمال يديك لا أزال، وأعلم بطريقة ما أنّك ستبقى حولي دائماً، فخوراً بي كأب بابنته، فرحاً بي كحبيب بحبيبته...
فاعلم أننّي أبعث لك سلامي مع الريح والمطر وأننّي أهمس لكلّ صفصافة تلاقيك في دربها أن تقبّلك في عينيك، وأوصي الزيزفون أن يمسح على رأسك بأوراقه، وأشجار التوت والزيتون والكينا، وكلّ خشب يثير العشق في أناملك...
وتعال زرني دائماً في كلّ صباح بابتسامتك العريضة، وشعرك الرماديّ، وعودك، وشعرك، وقهوتك، وعصير الجريب فروت، وتبغك، ويديك المباركتين...

توما
22-1-2011 

السبت، 15 يناير 2011

لو أننّي...




أعتّق الدمع في عينيّ،
أعتّق الألم...
جراراً في القلب، من أجلك...
علّ الصحو في عينيك يثمل...
فأنسل على أطراف أصابعي، أنسل ظلاً...
عبر الجدران التي تسوّر قلبك،
عبر الغابات التي تمتد كثيفة كثيفة حوله...
ثم تصحو، فتنسى أنّي لم أكن هناك أصلاً،
وقبل أن تتذّكر، أسقيك خمرة أكثر!

حبيبي، حبيبي، حبيبي،
أيّ إثم قد صنعت،
أيّ عثرة، كي أسقط مرة أخرى
في ذات الحفرة التي كنت يوماً
قد علقت فيها لأبد أو أكثر!

ليتك تذهب، بل ليتني أذهب
إلى أرض بلا حنين،
إلى بحر بلا ملح يسطع فوق الصخر
ويحرق جلدي العاري
وينفذ أعمق أعمق، تحت خلايا الجلد
تحت اللحم، تحت العظم،
عبر جدران أوردتي، ليوقف دفق الدم
العائد إلى حجرته الصغيرة
حجرته الأثيرة في طابق القلب الأعلى،
حيث تبقى الذكريات والأغنيات لتدندن
باتزان أحياناً وأحياناً بدون اتزان
إيقاع الدفق، وإيقاع الرقص على فوضى الحياة...  

حبيبي، حبيبي، حبيبي،
ليتني لا أقوى على قول حبييي
ليتني لا أقصد لما أقول حبيبي..حبيبي..
تماماً كما تقول أنت حبيبتي لأيّة عابرة على الطريق
ولا تعني أكثر من نداء غير خاضع للتأويل!

لو أن الله رحيم حقّاً
لو أنّ الله لطوف رؤوف بعباده أجمعين
ولو أنني مؤمنة طيبة حقّاً
ربما ما كنّا التقينا،
وربما ما كنّا انجرفنا في أحلام لا تعنينا
ولا تغنينا عن خبز الواقع ودمه،
ربما ما كنت أسقط أسيرة غوايتك،
ولا أقدّم نفسي قرباناً في هيكلك..
لو أنني فقط مؤمنة طيبة...

لكنّ ما حدث قد حدث،
واصطدمت برجليّ كلّ الحجارة،
وتشظت ركبتيّ..شظايا، شظايا...
وها أنا ذا، أقف أمام مرآتي،
لا أقوى على النظر في عينيّ،
لا أحتمل خيال دمع ينحبس وراءهما
لا أحتمل خيال ضعف، خيال شكّ
أو هوس بصنع الاحتمالات...

أقف، وأحمل بين كفيّ قبلة سرقتها
من شفتيك، قبلة صارت عصفوراً أخضر
يكبر على مهل، ويرتبّ ريشه بمنقاره،
ريشة..ريشة..
يكبر، ويقصي الفجوة بين يديّ،
ويسترق النظر إلى أعلى...

أقول لنفسي، ربما غداً أطلقه
إلى الحرية، فأتحرّر أنا أيضاً...
أقول ، لن تنتهي الحياة بعده...
ثم أغرق في صمتي،
أغرق في صمتي أكثر،
ويعلو يعلو صوته...


توما
15-1-2011

الجمعة، 14 يناير 2011

تونس...يعيّشك...



في الوقت الذي كانت فيه تونس تنتفض، وتغسل دماء أبنائها البسلاء شوارعها من أكوام الذلّ والقهر، ويسقط على إسفلتها ذهب الصمت شظايا تتناثر لتشوّه وجه العالم القبيح بينما يشرق وجهها أكثر ويزداد ألقاً وهيبة ووقاراً وقداسة، كنّا هنا نعيش تفاصيل حياتنا المملّة العادية جدّاً بكلّ تفان كأنّ شيئاً لا يحدث، كأنّ شيئاً لا يعنينا ما دام خارج محيط دائرة الراحة والاسترخاء التي تغلّفنا...

في الوقت الذي كانت تونس فيه تخلق من جديد، وتصنع أسطورة لا مثيل لها في تاريخ الوطن العربيّ الكبير، أسطورة لم يجرؤ كثيرون على الحلم بها حتى في أظلم زاوية في خيالهم حيث لن يصل طاغ أو يبحث شرطيّ، كنّا نحتفل بفوز فريقنا الوطني بمباراة كرة قدم مع شقيقة أخرى، ونملأ السماء صراخاً وهتافاً ونقلق ترتيب النجوم ونقيم الدنيا ونقعدها، فقط لأجل هدف واحد في مرمى لا يعنينا  ولا يغيّر شيئاً من مستوى المعيشة المتدّني، ولا يقلّل من فقر الفقراء، ولا يضع سقوفاً لا تسرّب المطر فوق بيوت الزينكو، ولا يدخل الدفء على البيوت التي لا تملك ثمن الكاز لتشعل المدفأة ولم يتسنّى لها مساحة للحلم بمدفأة كهربائية، ولا يوفّر ثمن العلاج لأب مقهور لم تتوافق مؤهلاته مع أيّ نوع من التأمينات الصّحية المتوفّرة فوقف عاجزاً أمام مرض طفلته الصغيرة، ولا يلبّي حاجات المستشفيات الحكومية لأدوية أساسية غير متوفّرة بشكل دائم لسبب ما رغم أنّ التقارير الرسمية تؤكد توفرّها طوال الوقت، ولا يؤمّن لطالب فقير مقعداً جامعياً محجوز أصلاً لابن عشيرة ما أو فتى أبله مناه الله بمكرمة ما منذ الصّغر، ولا يمحو الجدار الذي ننكر رؤيته بين عمان الغربية والشرقية، وعمان والمحافظات الأخرى، والجنوب والشمال...

في الوقت الذي كانت تونس فيه تصرخ وتحتج بصوتها وجسدها وحواسها كلّها، بغريزتها وعفويتها، بدموعها وعرقها ودمها، بقلبها وعقلها وروحها، كنّا نتمددّ على أرائكنا، نتمطّى بنعاس وكسل، نتابع فيلماً أجنبياً على "إم بي سي تو" أو "أربز جوت تالانت" (الذي يثبت بشكل فاضح أن موهبتنا الوحيدة كعرب هي قدرتنا الفاشلة على تقليد كلّ تفاهة يخترعها الغرب، وأنّنا لسنا سوى طفيليات زائدة على العالم، لا تغيّر شيئاً في مجرى التاريخ ولا تاريخ المستقبل!) على "إم بي سي فور" أو حلقة من حلقات "فريندز" تملاً أفواهنا بضحكات رنّانة، أو برنامجاً آخر من حاوية القاذورات التي تقدمها لنا القنوات الفضائية على مدار الساعة، وللأمانة فقد كنّا ندير القنوات في فترة الفاصل الدعائيّ لنقف على قناة إخبارية ما، ونسمع آخر الأخبار عمّا يجري في تونس الشقيقة التي تجمعنا بها رابطة قومية وثيقة وعرى أخوّة لا تنفصم!

نعم، تظاهر الآلاف منّا، بقصد أو عن غير قصد، بعشوائيتنا المعتادة، مطالبين بالحقّ الأبسط في كلّ مكان على هذه الأرض، مطالبين بالحقّ في حياة كريمة، رأيناهم على قنوات إخبارية فضائية غير قنواتنا المحلية التي لا تنفكّ تؤكد وتعيد وتزيد القصة الخيالية التي يعيش فيها شعب ما، بسلام وسعادة، في مكان ما، إلى الأبد تحت ظلّ راية حكومة عادلة تعمل ليلاً ونهاراً كي يغفو الشعب ببطون مملؤة وبال هادىء في فراش دافىء يشعّ بالحبّ والطمأنينة!

سمعنا صوت الشعب يعلو قليلاً، سمعنا الشعارات الغاضبة، والهتافات الحماسية، والمطالبات العادلة...لكنّني أخشى من سذاجتنا، من طيبة قلوب شعبنا المسكين الذي يغفر للقاتل دماء أبنائه التي سالت ظلماً على فنجان قهوة سادة، والذي يؤمن إيماناً أعمى بالنوايا الحسنة، ويصدّق على الفور ما تهمس له الحكومات في أذنه من كلام ناعم، ووعود تنسى كأي وجبة طعام عابرة!

حكومتنا التي لا تفتقد للدهاء والذكاء، وتتقن جيداً فنون الإقناع كلّها، وسحر الإخفاء، وتحفظ كلّ الطرق المؤدية إلى عقولنا المباشرة منها والمختصرة، وتمسك كلّ الخيوط التي تحرّك قلوبنا كدمية محشوة بالقطن، بدأت خطتّها الاستراتيجية بخفض الأسعار التي كانت قد عملت على رفعها مسبقاً دون أن تدرك أنّ المواطن لم يكن قادراً على مجاراة الأسعار الأصلية منذ البدء، وأنّ رفعها ثم خفضها مجدّداً لن يصلح الحال، ولن يجعل المواطنين أكثر ثراء أو أكثر ترفاً! بالطبع لم يكن قرار خفض الأسعار، نابعاً من خوف حقيقيّ على صحة المواطنين العقلية والنفسية والجسدية، ولم يكن نتيجة لضغط الإحساس المرهف للسادة النواب الذين انتخبهم الشعب ليكونوا لسانه لا ليقطعوه، بل كان نتيجة للخوف، الخوف فقط من احتمال متناه في الصّغر من أن يكون لثورة تونس أثر الفراشة في مجتمعنا، خافوا أن تعدينا تونس، ويا ليتها تعدينا شيئاً من شجاعتها، شيئاً من كرامة محمد البوعزيزي، شيئاً من إصرارها على الحياة!

أتساءل، في ضوء الأحداث الراهنة، متى ستنغرز إبرة المورفين القادمة في أوردة الشعب، ليعود لغفوته، لجوعه، وبرده، وانهزامه...ومتى ستتوقف إبر المورفين تلك من إفعال تأثيرها الخانق في جسدنا، فنستمر، لمرة واحدة، نستمر في محاولتنا لإحداث التغيير وإنتزاع حقوقنا البسيطة منها أولاً..متى سنعبّ هواء الحياة، نلتهمه، نضمّه، ونلعق ذراته بحريّة، بفرح، وبكرامة!

تونس، أعدتني اليوم تلميذة على مقاعد الدراسة، في صفوفها الإبتدائية الأولى، تحدّق في ورقة امتحان الاجتماعيات أو ما يسمى التربية الوطنية حالياً، وتعبّىء على الخريطة أمامها وطناً عربياً تلو الآخر، أيام كان الوطن العربيّ كلّه بكلّ أعضائه بذات الأهمية في قلوبنا وعقولنا، أيام كنّا حقّاً لا زلنا نؤمن بالوطن الواحد وبمفاهيم لم تعد موجودة في المناهج المدرسية الحديثة، كالقومية العربية، ووحدة التاريخ والمصير، أيام كنّا نحفظ نشيد "موطني" أكثر من كلمات السلام الملكيّ الذي كان بعضنا يستبدل بعضاً من كلماته بأخرى لها نفس الوزن، أيام كان شعر "حيدر محمود": (سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى، فإمّا حياة تسرّ الصديق وإمّا ممات يغيظ العدى..) وشعر محمود درويش: (سجّل أنا عربي.....سجّل برأس الصفحة الأولى: أنا لا أكره الناس ولا أسطو على أحد، ولكنّي..إذا ما جعت آكل لحم مغتصبي..حذار..حذار..من جوعي ومن غضبي..) هما الأكثر شعبية وتداولاً على الألسنة، أيام كنّا نملأ دفاتر الرسم بأعلام الأردن وفلسطين وسوريا والعراق ومصر ولبنان واليمن والمغرب وكلّ مهجة عربية تخفق في صدورنا، أيام لم يكن هناك قنوات فضائية ولا شبكات عنكبوتية وكانت أخبار فلسطين والعراق أكثر أهمية من الفيلم المصريّ الذي تبثّه قناة اسرائيلية يلتقطها "أنتين" التلفاز بطريقة ما! تونس، أعدتني تلك الفتاة الصغيرة التي تبحث عن الدائرة الأصغر في الجزء الإفريقيّ من الخريطة_ التي أثبتت اليوم أنّها الأكثر عناداً وجرأة وشجاعة_لتكتب الحروف الأربعة الأكثر أناقة والأقرب وقعاً على الأذن التي لم تنسى كيف طربت وذهلت لمّا سمعت صوت "صوفيا صادق" السماوي يغنّي كلمات الشاعر العراقيّ محمد مهدي الجواهري في قصيدة مديح لا يملك المرء سوى أن يعترف بجمالها وبحسن الوصف فيها وألق المعنى، والتي كانت قد كتبت في مديح المغفور له ابن الهواشم الحسين بن طلال مجازاة بالجميل جميلا...

تونس...يعيّشك...ردّ بالك على روحك....نحبّك برشا...
توما
15-1-2011



الأحد، 9 يناير 2011

لك أن تنتشي...

.لسبب ما يجافيني النوم، وكلما أوغل الليل في عتمته يفلت النعاس من بين أصابعي شيئاً فشيئاً....
فنجان القهوة السادة، السابع هذا اليوم، ليس هو السبب...
فقد توقف جسدي منذ زمن بعيد عن التعامل مع القهوة كمنبه، وصارت له رفيقة يعشق دفئها فقط...

للقهوة السوداء لذة لا تضاهيها إلا لذة لقائك...
مرة كالحقيقة، وكجفائك...
واضحة، جريئة في فورانها، كراقصة غجرية يهتزّ خلخالها فوق النار
فتزداد اشتعالاً...
غامضة، هادئة، ترسم بمهارة فنان مجنون متاهات مستقبل مجهول
في قعر الفنجان بعشوائية مقصودة...
تحيرني، تغريني، تقلق روحي، وتشعل في ذات الوقت في قلبي أملاً
وفي عيني ألقاً مسروقاً من أبدية ما
تائهة في بياض مزيف...

لك أن تستسلم لإغواء الغرور...
فلربما كان شوقي إليك، إلى صوتك وصمتك،
حلقات الدخان الهاربة كالأحلام من سجائرك دوائر دوائر
الزغب الخفيف في مشروع لحية أطلقتها،
ألق الذهول الطفولي المطلّ من عينيك كأنك ترى الأشياء لأول مرة
فتغريك عذرية المشهد، وتأخذك أبعد فأبعد...
قصصك التي لا تجيد روايتها،
خطاياك التي تدنيني من لحمك أكثر
وتريق في كأس روحي عرقاً أبيض
تكسر خبزاً..وتناولني، فأخشى من ثقل الخطية
وأنحني خجلاً...
وأصلي أن تبرأ نفسي بكلمة واحدة
أو قبلة...
لربما..كان شوقي إليك_يا سيدي_
هو ما يسرق النوم مني...ويسلبني الأحلام...

لك أن تنتشي،
وتجرع كأس انتصارك
فقلبي الذي لم ينوي يوماً حبك
الذي لا زال لا ينوي حبك
وإن يومأ أحبك
لن يبوح بأكثر من نبض زائد
قلبي الصخر الصامد
لان قليلاً بضربات موجك
وملحك_يا سيدي_
أيقظ في جوفه عطشه..........

توما

الخميس، 6 يناير 2011

أغار...

أغار!!! 



نعم يا سيدي

أنا طفلة تكره أن تتقاسم
حلواها مع أحد...
وتشارك الآخرين ألعابها
على مضض!!!

نعم يا سيدي
أنا طفلة أفسدها الدّلال
وفي أحبان كثيرة لاتحتمل!
لكنّي_لا لأنّي طفلة مدّللة_
بل امرأة عذّبها الهوى
وأتعبها طول الانتظار
أغار...
أغار...
بكلّ ما قد يملك الصّغار
من غيرة
بنظرة صغيرة أو لمسة تثار!!!

نعم يا سيدي
أغار من كلّ بسمة
على شفاهك ترتسم
أو ظلّ بريق آسر
في عيونك يشتعل
أو حتى سلام عابر
لا يحتمل أكثر من معنى السلام!!!

أغار من كلّ لحظة تسرقك منّي
من كلّ خطوة تحتلّ المسافة بيننا
وتبعدك عنّي...
لا لأنّي طفلة أفسدها الدّلال
لكنّي من فرط ما أحبّك...أغار!!!