الثلاثاء، 30 أغسطس 2011

...الأسطورة والقبضاي الطيّب...




يحيي أحد الفنانين العرب المشهورين وأحد أصحاب الشعبية الكبيرة في الوطن العربي حفلة في إحدى فنادق عمان في الأول من أيلول احتفالاً بعيد الفطر المبارك، وتبلغ أسعار التذاكر المائتان والخمسين للتذكرة الواحدة، ويمكن الحصول عليها بأسعار مخفضة عن طريق إحدى مواقع الإنترنت، وتشمل التذكرة حضور الحفل الذي يحييه المطرب الكبير، وعشاء فاخراً، بالإضافة للفواكه، ومشروبات كحولية و غير كحولية حسب الطلب.
طبعاً تضمن الإعلان وصف الفنان بالأسطورة الموسيقية في المنطقة، والحثّ على الحضور للاستمتاع مباشرة بموهبته وعظمته.

ما نسي الإعلان ذكره، هو أن المجاعة في الصومال لا زالت مستمرة، وأن أربعة أطفال من كلّ عشرة آلاف يموتون في كلّ يوم، وأنّ ثلث أطفال الصومال يعانون من سوء التغذية، وأنّ مخيمات اللاجئين ما عادت تتسع للقادمين الجدد في كلّ يوم، وما عادت قادرة على توفير الحدّ الأدنى من احتياجاتهم الإنسانية الأساسية، وأنّ هؤلاء جميعاً لن يتمكنّوا من حضور الحفلة المترقّبة.

ما نسي الإعلان ذكره، هو أنّ الثورة في سوريا لا تزال قائمة قدماً على ساق، والمحتجون لا زالوا يسقطون على اختلاف أعمارهم وانتماءاتهم وأطيافهم السياسية والدينية، سواء كانوا مشاركين أو حتى غير مشاركين بالحدث، وأنّ "القبضاي الطيّب" كما وصفه الفنان الأسطورة لا زال مصمّماً على مواصلة أسلوب القمع بكلّ أشكاله، ولأنّ الفنان العظيم الذي يعتقد أنّ الثورة في سوريا واليمن وليبيا لم تكن سوى غيرة من الثورة في تونس ومصر، وموضة انتقلت كعدوى من شعب عربيّ إلى آخر، لا تعنيه آخر تقليعات الموضة، وفهمه العميق لباطن الأمور يجعله يرى الحقيقة الغائبة عن أذهان العامة، فهو هنا ليثبت وجهة نظره العميقة في "حلاوة مرته" "إللي مثل البدر" ، ويسبّح الربّ الذي خلقها، مع هؤلاء الذين يشاركونه وعيه العميق وانتماءه الجارف لقضايا أمته وإحساسه الإنساني العالي بالأقمار الواقفة على بابه وحبيبه "إللي صاير كذّاب"!

أمّا بقيّة الأعضاء المكلومة من المحيط إلى الخليج فلن آتي على ذكرها، فيكفي ما ورد من تنغيص في مقالة واحدة فقط...

أتساءل هل دعا الأسطورة القبضاي الطيّب إلى حفلته؟ وهل سيتم بعث الفتات المتبقّي وجرعات الويسكي المتروكة في قاع الكؤوس على طاولات الحضور  إلى أطفال الصومال تهنئة بالعيد السعيد؟

أتساءل لماذا لا يقيم ابن "كفرشيما" حفلته الصاخبة هناك، بين أهله وناسه؟ وهل ترضى قريته التي أنجبت من ترابها السيّدة "ماجدة الروميّ" التي غنّت "سقط القناع" استقباله بعد أن سقطت كلّ الأقنعة؟؟؟

******************
العيد عيد، وهو تقليد لا ينتظر أحداً ولا يتوقّف لأجل أحد، تماماً كالحياة...
وله_رغم كلّ هذا الحزن_بهجة، ليس لأحد الحقّ في سرقتها من وجوه الأطفال وأيديهم
القابضة على عيدياتهم المتواضعة، ولكنّ المطلوب هو أن نبقي في ذاكرتنا أنّ كثيرين لن يشملهم العيد هذا العام، أنّ كثيرين لن يحظوا بترف التفكير في وجبة دسمة أو ملابس جديدة، أنّ كثيرين مشغولون بالحزن على أبيهم الذي استشهد، أو ابنهم أو ابنتهم، أو جارهم الذي خطف ولا خبر يطفىء القلق المشتعل في قلب امرأته، أنّ كثيرين لن يزوروهم العيد هذه المرة، وقد لا يزوروهم في أيّ وقت قريب!
المطلوب  "شوية إحساس" فقط،
"بس شوية إحساس"..!

توما
30-8-2011


السبت، 13 أغسطس 2011

...ليتنا نصاب بالعدوى...





أصل مكان عملي، أصعد إلى الطابق الخامس، كالعادة كان هناك، يمسح الممر المقابل لغرف المرضى، أبادله تحيّة الصّباح، يبتسم، ويرحّب بي ببشاشة وخفّة دمّ المصريين التي تميّزهم أينما وجدتهم...
"مناوبة يا دكتورة؟" يسألني،
"إنشالله" أجيب، وأمضي،
أسمعه يدعو لي من خلف ظهري...
"الله يقويّكي ويديكي العافية"
تبتسم شفتاي، أشكره، وأتجه نحو غرفة الطبيبات، أجد الغرفة في حالة يرثى لها، الفوضى تعمّ المكان، وسلة المهملات لا تتسعّ للقاذورات التي في داخلها، لا أجد مفرّاً من الاستعانة به لتنظيف الغرفة، رغم ما يصيبني من خجل عارم في مثل تلك المواقف، فيبادر بلا تردّد لفعل ما يلزم، أشكره، وأنطلق خارجة لأبدأ جولة المرور على المرضى في الطابق الثالث في قسم الجراحة. يستوقفني:
"دكتورة، ممكن أسألك سؤال؟"،
"بالنسبة لمريض السكري، إيه إللي بحدّد إمتى رجلو بتتئطع لما يكون في التهاب برجلو؟"
أشرح له الأعراض والعلامات الدّالة على عدم وجود حلول أخرى لشفاء المريض سوى بتر قدمه، ثم أستفسر عن سبب سؤاله..
يخبرني أنّ مريضة كانت ترقد هنا في إحدى غرف قسم الباطنية العامة، تمّ نقلها منذ بضعة أيام إلى قسم الجراحة بسبب وجود التهاب في قدمها، وأنّ طبيب الجراحة أبلغها أن عليه بتر قدمها وأنّ لا حلّ آخر أمامه في حالتها، ولكنّ المريضة ترفض الإجراء الطبيّ المقترح، وتجد صعوبة في تقبلّ واقع الأمر، وأنّه قلق عليها لذا فقد سألني ليفهم السبب وراء قرار الطبيب. سألته عن اسم المريضة، ورقم غرفتها، وعن صلة قرابتها به، يخبرني:
"ما تئربنيش، بس تهمّني والله يا دكتورة"..
أفترض أنّها مصرية الجنسية، فالمصريون في الغربة كلهم أقرباء بعض، ولطالما شاهدتهم يتكاتفون معاً ويصبحون يداً واحدة لمّا يتعلقّ الأمر بأحدهم ولو التقوا للتو، وأذكر قبل فترة ليست ببعيدة لمّا جاءنا شاب مصريّ محمولاً على أكتاف المصريين العاملين معه في ورشة البناء بعد أن سقط من سقّالة على ارتفاع عشرة أمتار، وكان يعاني من نزيف داخليّ في بطنه وإصابات في كبده وكليته، واحتاج عمليّة طارئة لإنقاذ حياته، أذكر أنّ ما من عامل أو مراسل أو موظّف مصريّ بغضّ النظر عن وظيفته في المستشفى إلا وأتى ليسألني عن حالته، ويطمئن عن استقرار وضعه، ويوصيني عليه، ولعدّة أيام متتالية، حتى صرت أسرع الخطو في ممرّات المستشفى، وأتظاهر الانشغال بمكالمة ما إذا رأيت أحدهم متجهّاً نحوي لمللي من كثرة الأسئلة وتكرارها، إلى أنّ تحسّن الشاب، وخرج من المستشفى عائداً إلى مصر ليقضي فترة نقاهته وسط أهله...

************************************

أبدأ جولتي على المرضى، أصل المريضة التي أوصاني عليها، أسألها عن حالها، فتجيبني بلهجة أردنيّة واضحة لا يمكن الشكّ فيها، أخبرها أنه أوصاني عليها، فتذكره بالخير، وتخبرني أنّه كان يساعد ابنتها في حملها من السرير إلى الحمام لقضاء حاجتها ومن ثمّ إعادتها إلى السرير، وفي إحضار ما يلزمها من كافتيريا الطابق الأرضيّ وأنّه كان يوصي الممرّضّات بها، كأنّها قريبته أو أكثر!
أكشف عن قدمها، وأقوم بما يلزم لتنظيفها من الأنسجة الميتة، وغسلها، ومن ثمّ تضميدها، تشكرني، أتمنّى لها الشفاء، ومن ثمّ أواصل جولتي على المرضى، أتجّه بعدها إلى العمليات، زائدتان دوديتّان ملتهبتان، إحداهما لطفل في الثامنة، يشكو من ألم خاصرته اليمنى منذ خمسة أيام، ويعالج رغم وضوح علاماته السريرية من "البرد" حتى انفجرت زائدته الدودية في بطنه!
أعود إلى غرفة الطبيبات في الطابق الخامس، أغسل وجهي، وأعدّ كوباً من القهوة، أطلّ من النافذة، أرتشف قهوتي على مهل، وأراقب الليل يلفّ عمّان بعباءته الطويلة، المزيّنة بأضواء المدينة البعيدة التي تتلألأ في القاع نجوماً صغيرة...

طرقات خفيفة على باب الغرفة تقطع عليّ استغراقي في المشهد، أفتح الباب لأجده واقفاً هناك، يشكرني بحرارة على مروري على المريضة التي أوصاني عليها، أمتلأ بالدهشة، وأخبره أنّي لم أفعل شيئاً أكثر ممّا يتوجبّ عليّ فعله، وأنّ مروري عليها كان جزءاً من عملي فقط، لا يسمعني ويواصل شكري، يسألني إن كنت بحاجة لأي شيء، فأشكره، ثم يذهب ويتركني في حيرة من أمره!

يمرّ الليل ويأتي صباح اليوم التالي، أنهي ما تبقّى من عمل الليلة الفائتة، وأستعدّ للعودة إلى بيتي، أخرج من الغرفة، وهناك في الممرّ المؤدي للمصاعد كان هناك، يمسح الأرض بنفس الهمّة والنشاط...
ألقي عليه تحيّة الصّباح، ثم أقول مداعبة:
"هو إنتا ساكن بالمستشفى؟ ما بتروّحش؟"
يجيبني بابتسامة عريضة:
"هو إنتي إللي بتروّحي يعني؟"

ألوّح له مودّعة وأتجه صوب البيت،
أتركه هناك، هو لن يعود إلى بيته اليوم، ولا غداً، ولا بعد غد...

أذكر معه، أم ملك السيّدة المصريّة العجوز التي تعاني من آلام المفاصل، والتي خضعت لعملية جراحية في عينيها، ولكنّها واظبت على الحضور لعملها في مستشفى حكومي آخر، لتحافظ على نظافة غرفة الممرّضات وتعدّ القهوة والشاي للأطبّاء في استراحة العمليات، وكنت إذ أصادفها تمطرني بدعواتها لي بالتوفيق، وبالنجاح وبعريس ابن حلال، وتطبع على وجهي قبلتين كأنّني ابنتها الغائبة...
ورشا الصبيّة المصريّة الطيبّة القلب والوجه، بابتسامتها الواسعة الجميلة، والتي ظلّت تتصلّ بي حتى بعد أن تمّ نقلي إلى مستشفى آخر، وتدعوني إلى فنجان قهوة سادة تحضّره لي بيديها لتطمئن عليّ، وتبعث لي في الأعياد بتمنيّاتها لي بالخير والسعادة..
ومحمد الذي دفع سرير أمي إلى العمليات ذات يوم وظلّ يلقي بنكاته ليضفي على قلبها البهجة ويدخل إليه الاطمئنان، ثم انتظرها حتى خرجت من العملية واطمئن عليها، وواصل بعدها سؤالي عن صحتها وبعث سلامه إليها، وغيرهم الكثيرين من البسطاء الطيبين الذين يعبرون باب القلب دون أن ينتبه القلب أنهم لم يكونوا هناك أصلاً...

ليتنا نصاب بالعدوى من المصريين...


توما
14-8-2011

الأربعاء، 10 أغسطس 2011

...هراء...

   
أجرّب الحياة خارج نفسي، أجرّب أن أكون مثلك، شخصاً لا يبالي كثيراً بما يحدث خارج نطاق العشرة تريليونات خلية المكونة لجسده، يفعل ما يطلب منه، ويقوم بكلّ الواجبات المترتبّة عليه على أكمل وجه، يكسب ودّ الجميع، وحبّ الجميع، ويمشي بينهم كأنّه آت من كوكب آخر، كوكب أكثر تحضّراً، أكثر تقدّماً، وإثارة للاهتمام...لا شيء هنا يثير اهتمامه حقّاً، ولا أحد يلفت انتباهه للدرجة التي تستحق منه أن يلتفّ برأسه نحوه، أن يصيغ السمع له مطوّلاً، أن يخرج هاتفه من جيبه ليتصّل به ويطمأن عليه، هو معتاد على تلّقي الاتصالات من الآخرين جميعاً، معتاد على أن يقاطع الآخرون صمته الأبديّ الذي يحيطه بهالة من الهيبة والوقار والرزانة والغموض في آن معاً ليطمئنوا إلى وجوده في دنياهم، فيكسبون سبباً إضافياً لمواصلة حياتهم الروتينية الممّلة...

أجرّب أن أفقد الاهتمام بآخرين اعتدت أن أهتمّ بهم، أن أتبنّى إيمانك الظاهر بأنّ كلّ شيء سيكون على ما يرام في النهاية، وأنّ الآخرين قادرون على الاعتناء بأنفسهم، ولا بدّ أنّ إظهار اهتمامي بهم يعتبر ضعفاً من جهتي، أو نقصاً في أسوار روحي أحاول سدّه بتفاصيل حياة الآخرين الأكثر مأساوية من تفاصيل حياتي، فأحسّ ربما بالتفوّق عليهم، أو امتلأ بالامتنان لأنّ حياتي أكثر سلاماً من حياتهم وأقلّ درامية...

أحتفظ بآرائي عن ما حولي لنفسي، أراقب ترهات الآخرين فلا أبدي امتعاضي، أجسّ تملّقهم، فأدعهم يواصلون ما يفعلونه بالطريقة التي يريدونها، لا أمنعهم، وأحافظ على الحدود المتماهية بيني وبينهم، فيعبرونها وقتما شاؤوا، في الوقت الذي أحتفظ فيه أنا بورقتي الرابحة دوماً فآخذ منهم ما أرغب بأخذه، أو بالأحرى أدعهم يمنحونني ما يمنحونني بسعادة ورغبة علنية، وأقدّم لهم في المقابل فتات حضوري، أستمع لهم بصيوانيّ أذنيّ دون أن أدع الكلمات تنفذ أعمق من ذلك، أمنّ عليهم بمعروف ضئيل لا يكلفّني الكثير، ويعني لهم كلّ شيء، وأترك لهم ساحة واسعة للتأويل ليتريضّوا بها في الساعات التي يخرجون فيها من زنازين كبتهم الضيّقة...

لا أهتم لمن ثار على من، ومن أسقط من، وكم ضحيّة مدنية غير مسلّحة سقطت، ومن أحرق جسده ولأجل ماذا، ولا من تظاهر طلباً لإصلاح ما، أو أيّ ردّ حضاريّ اتخذّ بحقّه..لا يعنيني ما يحدث حقّاً ما دام الأمر يحدث خارج عتبة بيتي الأنيق الواقع في حيّ راق، حيث الأشجار الخضراء تظلّل الشوارع المعبّدة، وأضواء الكهرباء لا تنقطع، ولا المياه، وحيث هناك حارس مصريّ لكلّ بناية أو فيلا يقبض أجراً محترماً ويقوم بما عليه ليحافظ على المظهر الحضاريّ للبنايات، والسيارات المتراوحة من الأربعة إلى الثمانية أمام كلّ فيلا أو بناية في الشارع تتنافس في لمعانها وسرعتها وأثمانها!
وإذ يمرّ أمامي منظر طفل صوماليّ على شاشة التلفاز، لا أواصل المشاهدة، ولا أفهم لماذا تحترف وسائل الإعلام تنغيص مزاجي الرائق بأخبار لا تعنيني عن بلاد لا تعنيني، وبشر لا يمتّون لي بأيّ صلة قرابة! وأقلب القناة لأشاهد فيلماً أجنبياً يناقش مشكلة اجتماعية هامة لا بدّ سيقلب طريقة نظري للأمور شمساً على قمر ويغيّر مواعيد جزري ومدّي للأبد!

أمسك قلمي، وأكتب هراءً، كي أثبت للعالم أنّي لا أزال قادرة على الكتابة، وأنّني لا زلت أملك الكثير لأقوله، وأنّ حياتي أكثر ثراء من حياتهم، أكثر تنوّراً، أكثر عمقاً، أكثر إثارة! في الوقت الذي تواصل فيه أنت صمتك، وتمثيلك الرديء، وأغرق أنا أكثر في محاولتي انتحال شخصيتك المنتحلة، إلى أن يصطدم رأسي بالقاع، أنا لست أنت، ولن أكونك يوماً...

وأنت، أنت لست أنت..ولست أذكر أين أضعناك سويةً...
ترى أين أضعناك..؟

توما
10-8-2011

الثلاثاء، 9 أغسطس 2011

...أكثر شبهاً بنا...




للتوّ التقيا، سريرهما متوازيان في الغرفة نفسها، الأول يعاني من ألم بالبطن، وسمع الأطبّاء يخبرون أمّه أنّه قد يحتاج لعملية طارئة، والثاني يخضع للمراقبة إثر سقوطه من شرفة منزله الواقع في الطابق الثاني..الأول في العاشرة من عمره، في الصفّ الخامس الابتدائي شعبة "ج"، والثاني سيبلغ الثامنة من عمره بعد شهر، ويدخل الصف الثالث الابتدائي بعد انقضاء العطلة الصيفية، أشقى إخوته، وأقلّهم انضباطاً، كما تقول أمّه، في محاولة لإخفاء شعورها بالذنب إذ غاب طفلها عن عينيها فتسللّ إلى الشرفة ثم تسلّق سورها وانزلقت قدمه فوقع، ووجده إخوته ممدّداً على ظهره فاقداً لوعيه في الحديقة.
كلاهما عطش، وكلاهما ممنوعان من الأكل والشرب..كلاهما يشتكيان من وخز الإبر التي غرزت في  جسديهما، ويعلنان امتعاضهما من هؤلاء اللابسين مراييل بيضاء ولا يكفّون عن العبث بخصوصيتهما وجسديهما كما شاؤوا دون أن تعترض أمهاتهما على ذلك. ممنوعان من مغادرة السرير إلا لقضاء الحاجة، ممنوعان من الخروج من الغرفة التي مهما اتسّعت تبقى ضيّقة في نظريهما..متألمّان كلاهما، واحد من بطنه والآخر من رأسه، وذراعه المكسورة المثبتّة في جبيرة بيضاء كمراييل العاملين هنا أيضاً! كلّ شيء هنا أبيض، السقف أبيض، الأسرّة بيضاء، الملاءات، ملابس العاملين، مراييلهم، أحذيتهم، القفازّات، الملفّات التي يحملونها جيئة وذهاباً، كلّ شيء، كلّ شيء...
تغيب ساعتان قبل أن أمرّ مرة أخرى بغرفتهما..كان الطفل ذو الجبيرة يجلس على طرف سرير الآخر، ينفخان بالونات من قفازّات أعطتهم إياها الممرّضة أملاً في تخفيف شيء من مللهما، ويرسمان عليها وجوهاً ضاحكة وأخرى غاضبة، ثم يركلانها بأقدامهم، أو يقذفانها إلى الأعلى بأيديهم الصالحة للاستعمال..
الجبيرة البيضاء، التي كانت بيضاء، أضحت لوحة فنيّة عليها رسم لطفلين، يركلان ما بينهما كرة قدم، فوق عشب أخضر، تحت سماء زرقاء وشمس تضحك، وتحت الرسم توقيع عشوائيّ فوضويّ واسم ورقم هاتف!
أعيد فحص الطفل ذو العاشرة، وأخبر أمّه بضرورة العمليّة الجراحيّة لاستئصال زائدته الدودية الملتهبة على الأغلب، أطلب منها إخبار أبيه بالمجيء للتوقيع على موافقته على إجراء العمليّة، تخبرني أنّه موافق بكلّ تأكيد، لكنّه قد لا يتمكنّ من المجيء في وقت قريب، وأنّها ستوقّع على الموافقة بنفسها، أفاجئها بنصّ قانونيّ يمنعنا من إجراء العمليّة لابنها دون توقيع أبيه، إذ أنّها أمام القانون لا تعتبر وليّة أمره، ولا تملك أيّ حقّ لاتخاذ القرارت الطبيّة المناسبة لصّحته رغم أنّها من حملت به في داخلها، ثم ولدته بحبّ رغم ألمها، وصحت في الليل لترضعه، ثم رافقته خطوة خطوة لتسنده إذا تعثّر في مشيته الأولى، وشاركته النسبة الأكبر من وقته وتحملّت النسبة الأكبر من رعايته وأسهمت بالنسبة الأكبر في تربيّته لانشغال أبيه في تلبية الحاجات الأساسيّة لأيّ بيت..والقانون أعمى لا روح له، ولا يفهم أبعد من نصّه الحرفيّ! يرتفع حاجباها دهشة، ثم تسارع بالاتصال بزوجها، وتلتفت إليّ، "يحتاج ساعة على الأكثر ليصل إلى هنا.."، ثم تسألني "وماذا يحدث في حال لم توافق أمّ طفل على إجراء طبيّ متعلّق بابنها ووافق عليه أبوه؟ أليس لرأيها في هذه الحالة أيّ وزن أو أثر؟ ولماذا لا يطالب القانون بموافقة كلا الوالدين على القرار المتعلّق بابنهما؟"..
فجأة ينفقأ أحد البالونات القفازيّة في وجه الطفل ذو الجبيرة، فيضحك الطفل ذو العاشرة، في الوقت الذي يركض فيه طفل الثامنة إلى حضن أمه وينفجر بالبكاء..

تمرّ حوالي الساعة، ويصل والد الطفل، يوقّع على عجلة، لا يستفسر عن شيء، يلقي نظرة عابرة على ولده ويطبع قبلة على جبينه، ثم يغادر المستشفى عائداً إلى عمله..
أنتظر الطفل على باب غرفة العمليات، يأتي بصحبة أمّه وممرّضة، يخضع للعملية، ويتم استئصال زائدته الدودية الملتهبة...
أمرّ للاطمئنان عليه في اليوم التالي، أجد سريره فارغاً، والسرير الذي بجانبه كذلك...
كان الولدان الصغيران يمشيان في الممرّ المقابل لغرفتهما، الطفل ذو العاشرة يتكىء على كتف الطفل ذو الثامنة، وراءهما أمهمّا...
ألوّح لهما، أشير لكأس ماء، يفهمان أنّي أسمح لهما بالشرب أخيراً، يقفزان فرحين، ويتسابقان نحو غرفتيهما...

****************************************************

أحسد الصّغار، أحسد بساطتهم...لأنّ دقائق قليلة فقط تكفيهم ليفعلوا ما يحتاج الكبار سنوات ليفعلوه...

في بضع لحظات يتصادقون، وفي بضع لحظات يتصالحون، لا يسأل الواحد فيهم الآخر عن دينه، عن أصله أو أصل والديه، عن مركزه الاجتماعيّ أو عمل والده، عن مكان سكنه، عن ممتلكاته المادية، عن توجهه السياسيّ، أو عن إنجازاته العمليّة وشهاداته وعلاماته المدرسيّة...لا ينظر الواحد فيهم للآخر ماذا يلبس، وكم مصروفه اليوميّ..لا يدرسون مدى الفائدة المحتملة من مصادقة أحد بعينه، وتكوين علاقات اجتماعيّة مع آخر، لا يجاملون أحداً على حساب مشاعرهم الحقيقية، ولا يتحاملون على اشمئزازهم من شخص ما لأجل مصلحة ما، ولا يتخلّون عن شخص يحبّونه، لا يبيعونه، لأنّ صحبته مضيعة لوقتهم لن تزيد من أهميتهم الاجتماعية، شعبيتهم أو خزينتهم المادية...

حتى نأتي نحن الكبار، نأتي ونفسدهم، ونقولبهم في إطارات نحن صنعناها، فيصبح للواحد فيهم دين وأصل وفصل، ومركز احتماعيّ، وتوجّه سياسيّ، وانتماءات معيّنة لتسميّات نحن وضعناها لتخدم منظوراً ضيّقاً محدوداً ما، فيبتعدون شيئاً فشيئاً عن الإنسان داخلهم، ويصيرون أكثر شبهاً بنا، أقلّ شبهاً بأنفسهم...


توما
10-8-2011


الأربعاء، 3 أغسطس 2011

حالة اعتياد عام




منذ زمن لم أنتعل الكلمات كحذاء خفيف للركض، أهرب به خارج هذا العالم...منذ زمن لم أمتطي عصاتي السحرية وأدور فوق الغيوم بحثاً عن قصة خيالية جديدة أسكنها، وأبشّر بها أهل الأرض...
لا أعدّ الأيام، لا أعدّ ساعاتها، ولا أراقب الزمن..أجلس على قارعة الطريق كمشرّد فقد اهتماماته في السياسة والحياة العامة والخاصة، في الأجساد المارّة، في المحادثات، في المجادلات، في الابتسامات المنمقة، في المجاملات، في آخر تقليعات الموضة، وحتى في الثورات المشتعلة هنا وهناك، في المناسبات الوطنية وغير الوطنية، في فتاوي الشيوخ والرهبان، في الأحكام العرفية والأخلاقية، في ما أقنع البشر به بعضهم البعض، وحتى في البشر أنفسهم، المارين العابرين على هذه الدنيا، ككثبان رملية، تفرقها الريح، تبعثرها فتغيّر وجه الأرض كما شاءت، وتترك أثراً لمن شاءت..
أراقب الحياة تنساب من بين أصابعي بلا معنى، بلا هدف، رغم كلّ الخيارات المتاحة، وكلّ الأحلام المعلّقة على أحبال الغسيل المنتشرة في كلّ أرجاء المدينة...لا أحسّ بالملل، لا أحسّ بالإثارة، لا أحسّ بالحزن، ولا أحسّ بالسعادة..لا فرح هنا، لا ألم، لا مشاعر...مساحة فارغة منسية، لا بيضاء، لا سوداء، لا رمادية، شفّافة كفقاعة ماء، بلا كثافة ولا كتلة، ولا أحكام فيزيائية تخضعها، لا جاذبية تجبرها على السقوط نحو القاع، ولا هناك ثمة هواء يحملها إلى الأعلى، كأنّها روح عالقة في برزخ ما، فلا هي من أهل الجنّة ولا هي من أهل النار!
أعتاد حالة الاعتياد العام، أصحو كلّ يوم في الساعة ذاتها، على صوت المنبّه ذاته، لأعيد عيش تفاصيل نفس اليوم...( أقسم أنّه اليوم نفسه ولو تغيّرت الوجوه وديكورات السماء وتأثيرات الظلال!) أقصد الدوام الروتينيّ، أخوض معاركي المتشابهة في المضمون والمتفاوتة في درجات الإثارة ومنسوب الأدرينالين الذي تضخّه في دمي والذي يتضاءل مرة بعد مرة ولو اشتدّ وطيس الحروب وتلاطمت أمواج البحر الذي أركبه بقارب يكاد يغرق،  أتأففّ من الأشياء ذاتها، من درجات الحرارة الخانقة، من مزاج الآخرين المتعكّر وقلة صبرهم، كأنّ مزاجي ليس عكراً، وصبري حبله لا ينقطع! أعيد إلقاء التعليمات والإرشادات ذاتها مرة بعد الأخرى، التحذيرات، حركات يديّ، تعابير وجهي الصارمة أحياناً والحانية أحياناً أخرى، نبرة صوتي الهادئة المتزّنة، ثم أرسم ابتسامة عريضة تبدو صادقة حقّاً وتكون صادقة بجدّ في بعض الأحيان، وأتمنّى التوفيق أوالشفاء العاجل لزائر يليه زائر آخر وآخر وآخر وآخر وآخر وآخر....كأنّي روبوت لعين، على قدر المهمة، بجسد مقاوم لعوامل الطبيعة وتأثيرات المناخ، يعمل وفق تعليمات مبرمجة مسبقاً، وردود فعله محسوبة مسبقاً بمعادلات معقّدة، معروفة النتائج مسبقاً، أيضاً! في الوقت الذي تستلقي فيه روحي على إحدى أسرّة العناية المركزّة داخل حجرة قلبي العلوية اليسرى، حيث تصبّ الدماء المحملّة بأكسجين طازج نقيّ لم يختلط بعد بهموم ما تبقّى من خلايا الجسد، وتغرق في كلّ يوم في غيبوبتها أكثر فأكثر...في فحصها السريريّ الأخير كان بؤبؤيها يتفاعلان مع الضوء، لكنّها لا تستجيب لأيّ مؤثر خارجيّ آخر، لا تحسّ بوخزات الإبر التي أغرزها عميقاً في جسدها، لا تفتح عينيها، ولا تجيب إذا ناديتها باسمها، كأنّها ما عادت هنا ولا هي عبرت في آن معاً إلى الجهة الأخرى!
أعود من العمل، لألقي بنفسي في روتين آخر، أحارب دقائق الفراغ الثقيلة، أنام، أصحو، أنام مجدّداً، أحاول أن أنسى، أن أمحو الكلمات على لوح الذاكرة المحفوظ، أن أكسر اللوح كلّه، تتحطمّ قبضة يدي، تتفتتّ عظام أناملي الصغيرة، يبرق ألم في كلّ ذراعي، ويدّوي رعد...لا أنسى...ولا تعفيني الذاكرة من عبئها...
أشعل سيجارة، وأناولها لروحي النائمة...ستحترق، يهمس لي قلبي،
فلتحترق إذاً، أو لتصحو من نومها الثقيل..ألم ترى يوماً حصاناً يقتله صاحبه بطلقة مباشرة؟ قد كانت أفضل من حصان...
أدير وجهي، أغادر المكان،
 أنتعل فردتين من الكلمات المهترئة، أمتطي عصاتي السحرية، وأدور فوق الغيوم بحثاً عن قصة خيالية أخرى، عن طواحين هواء أحاربها، عن غول جائع يصطادني كفريسة سهلة، عن قوس قزح، عن جزيرة لم يكتشفها أحد، عن سفينة قراصنة، عن تنين ينفث لهباً في وقت غضبه، وتخرج فراشات من منخريه إذا راق مزاجه، عن كوكب آخر، عن شهاب أمسك بذيله، عن ثقب أسود يبتلعني...
أدور فوق الغيوم، أدور وأدور، ألف قصة خيّالية تصادفني، ألف تنين وغول جائع، وطواحين هواء، أتركها ورائي، وأبحث عنك، عن وجهك، ولما أظنّ أنّي وجدتك، وجدتك أخيراً، يبتلعني ثقب أسود!

توما
4-8-2011