الثلاثاء، 9 أغسطس 2011

...أكثر شبهاً بنا...




للتوّ التقيا، سريرهما متوازيان في الغرفة نفسها، الأول يعاني من ألم بالبطن، وسمع الأطبّاء يخبرون أمّه أنّه قد يحتاج لعملية طارئة، والثاني يخضع للمراقبة إثر سقوطه من شرفة منزله الواقع في الطابق الثاني..الأول في العاشرة من عمره، في الصفّ الخامس الابتدائي شعبة "ج"، والثاني سيبلغ الثامنة من عمره بعد شهر، ويدخل الصف الثالث الابتدائي بعد انقضاء العطلة الصيفية، أشقى إخوته، وأقلّهم انضباطاً، كما تقول أمّه، في محاولة لإخفاء شعورها بالذنب إذ غاب طفلها عن عينيها فتسللّ إلى الشرفة ثم تسلّق سورها وانزلقت قدمه فوقع، ووجده إخوته ممدّداً على ظهره فاقداً لوعيه في الحديقة.
كلاهما عطش، وكلاهما ممنوعان من الأكل والشرب..كلاهما يشتكيان من وخز الإبر التي غرزت في  جسديهما، ويعلنان امتعاضهما من هؤلاء اللابسين مراييل بيضاء ولا يكفّون عن العبث بخصوصيتهما وجسديهما كما شاؤوا دون أن تعترض أمهاتهما على ذلك. ممنوعان من مغادرة السرير إلا لقضاء الحاجة، ممنوعان من الخروج من الغرفة التي مهما اتسّعت تبقى ضيّقة في نظريهما..متألمّان كلاهما، واحد من بطنه والآخر من رأسه، وذراعه المكسورة المثبتّة في جبيرة بيضاء كمراييل العاملين هنا أيضاً! كلّ شيء هنا أبيض، السقف أبيض، الأسرّة بيضاء، الملاءات، ملابس العاملين، مراييلهم، أحذيتهم، القفازّات، الملفّات التي يحملونها جيئة وذهاباً، كلّ شيء، كلّ شيء...
تغيب ساعتان قبل أن أمرّ مرة أخرى بغرفتهما..كان الطفل ذو الجبيرة يجلس على طرف سرير الآخر، ينفخان بالونات من قفازّات أعطتهم إياها الممرّضة أملاً في تخفيف شيء من مللهما، ويرسمان عليها وجوهاً ضاحكة وأخرى غاضبة، ثم يركلانها بأقدامهم، أو يقذفانها إلى الأعلى بأيديهم الصالحة للاستعمال..
الجبيرة البيضاء، التي كانت بيضاء، أضحت لوحة فنيّة عليها رسم لطفلين، يركلان ما بينهما كرة قدم، فوق عشب أخضر، تحت سماء زرقاء وشمس تضحك، وتحت الرسم توقيع عشوائيّ فوضويّ واسم ورقم هاتف!
أعيد فحص الطفل ذو العاشرة، وأخبر أمّه بضرورة العمليّة الجراحيّة لاستئصال زائدته الدودية الملتهبة على الأغلب، أطلب منها إخبار أبيه بالمجيء للتوقيع على موافقته على إجراء العمليّة، تخبرني أنّه موافق بكلّ تأكيد، لكنّه قد لا يتمكنّ من المجيء في وقت قريب، وأنّها ستوقّع على الموافقة بنفسها، أفاجئها بنصّ قانونيّ يمنعنا من إجراء العمليّة لابنها دون توقيع أبيه، إذ أنّها أمام القانون لا تعتبر وليّة أمره، ولا تملك أيّ حقّ لاتخاذ القرارت الطبيّة المناسبة لصّحته رغم أنّها من حملت به في داخلها، ثم ولدته بحبّ رغم ألمها، وصحت في الليل لترضعه، ثم رافقته خطوة خطوة لتسنده إذا تعثّر في مشيته الأولى، وشاركته النسبة الأكبر من وقته وتحملّت النسبة الأكبر من رعايته وأسهمت بالنسبة الأكبر في تربيّته لانشغال أبيه في تلبية الحاجات الأساسيّة لأيّ بيت..والقانون أعمى لا روح له، ولا يفهم أبعد من نصّه الحرفيّ! يرتفع حاجباها دهشة، ثم تسارع بالاتصال بزوجها، وتلتفت إليّ، "يحتاج ساعة على الأكثر ليصل إلى هنا.."، ثم تسألني "وماذا يحدث في حال لم توافق أمّ طفل على إجراء طبيّ متعلّق بابنها ووافق عليه أبوه؟ أليس لرأيها في هذه الحالة أيّ وزن أو أثر؟ ولماذا لا يطالب القانون بموافقة كلا الوالدين على القرار المتعلّق بابنهما؟"..
فجأة ينفقأ أحد البالونات القفازيّة في وجه الطفل ذو الجبيرة، فيضحك الطفل ذو العاشرة، في الوقت الذي يركض فيه طفل الثامنة إلى حضن أمه وينفجر بالبكاء..

تمرّ حوالي الساعة، ويصل والد الطفل، يوقّع على عجلة، لا يستفسر عن شيء، يلقي نظرة عابرة على ولده ويطبع قبلة على جبينه، ثم يغادر المستشفى عائداً إلى عمله..
أنتظر الطفل على باب غرفة العمليات، يأتي بصحبة أمّه وممرّضة، يخضع للعملية، ويتم استئصال زائدته الدودية الملتهبة...
أمرّ للاطمئنان عليه في اليوم التالي، أجد سريره فارغاً، والسرير الذي بجانبه كذلك...
كان الولدان الصغيران يمشيان في الممرّ المقابل لغرفتهما، الطفل ذو العاشرة يتكىء على كتف الطفل ذو الثامنة، وراءهما أمهمّا...
ألوّح لهما، أشير لكأس ماء، يفهمان أنّي أسمح لهما بالشرب أخيراً، يقفزان فرحين، ويتسابقان نحو غرفتيهما...

****************************************************

أحسد الصّغار، أحسد بساطتهم...لأنّ دقائق قليلة فقط تكفيهم ليفعلوا ما يحتاج الكبار سنوات ليفعلوه...

في بضع لحظات يتصادقون، وفي بضع لحظات يتصالحون، لا يسأل الواحد فيهم الآخر عن دينه، عن أصله أو أصل والديه، عن مركزه الاجتماعيّ أو عمل والده، عن مكان سكنه، عن ممتلكاته المادية، عن توجهه السياسيّ، أو عن إنجازاته العمليّة وشهاداته وعلاماته المدرسيّة...لا ينظر الواحد فيهم للآخر ماذا يلبس، وكم مصروفه اليوميّ..لا يدرسون مدى الفائدة المحتملة من مصادقة أحد بعينه، وتكوين علاقات اجتماعيّة مع آخر، لا يجاملون أحداً على حساب مشاعرهم الحقيقية، ولا يتحاملون على اشمئزازهم من شخص ما لأجل مصلحة ما، ولا يتخلّون عن شخص يحبّونه، لا يبيعونه، لأنّ صحبته مضيعة لوقتهم لن تزيد من أهميتهم الاجتماعية، شعبيتهم أو خزينتهم المادية...

حتى نأتي نحن الكبار، نأتي ونفسدهم، ونقولبهم في إطارات نحن صنعناها، فيصبح للواحد فيهم دين وأصل وفصل، ومركز احتماعيّ، وتوجّه سياسيّ، وانتماءات معيّنة لتسميّات نحن وضعناها لتخدم منظوراً ضيّقاً محدوداً ما، فيبتعدون شيئاً فشيئاً عن الإنسان داخلهم، ويصيرون أكثر شبهاً بنا، أقلّ شبهاً بأنفسهم...


توما
10-8-2011


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق