الأربعاء، 20 يوليو 2011

...فزعة...


"فزعة"  كلمة متداولة في الشارع المحلّي على صعيد واسع، وتعني "الهبّ لتقديم المساعدة إذا طلبت"، وللفزعة في وطني سيناريوهات لا تنتهي...
فلا يمرّ حادث على طريق إلا وتتوقف كلّ السيارات العابرة وكلّ المشاة ليفزعوا لضحايا الحادث بإخراجهم من سياراتهم، إيصالهم إلى المستشفيات، طلب مساعدة رجال الدفاع المدني أو الشرطة،
أو محاولة إسعاف ضحايا الحادث بما أوتي من قدرات، أو الإصلاح بين طرفيّ الحادث وتهنئتهم بالسلامة، أو ما إلى ذلك... 
ولا تحاول فتاة ركن سيارتها في إحدى الشوارع أو الزوايا إلا ويفزع لها كلّ الشباب المراقبين لعملية الاصطفاف، بعضهم يوجهها بإشارات من يده، وبعضهم يعرض عليها أن يوفّروا عليها التعب متبرّعين بوقتهم وجهدهم الشخصيّ ليركنوا لها السيارة بأنفسهم، وآخرون يهللّون مشجعين من بعيد كلما اقتربت المهمة الشاقة من الانتهاء بنجاح!
وهناك فزعات أخرى في أوقات الأفراح وأوقات الأحزان، فتجد الجميع يدلي بدلوه في مسائل من المفترض أنّها شخصية، ولكنّ لأنّ الخصوصية والحريّة الفردية في مجتمعنا تعتبران مفاهيماً غربية ودخيلة علينا وهدفها إفساد أخلاقنا العامة وتحطيم ركائن مجتمعنا، تجد الجميع يهبّون للحفاظ على رزانة واستقامة وتديّن الضمير العام، مقدّمين في ذلك المصلحة العامة على المصالح الشخصية الصغيرة...
والفزعات لها مكانها حتى في المستشفيات، فإذا رفع مراجع ما صوته معترضاً على قرار طبيّ ما، تجد الجميع من حوله يفزعون له بأصواتهم الخشنة والناعمة في زوبعة صوتية تعصف في وجه الطبيب الذي يظنّ_على رأي المراجع الكريم_أنّ المستشفى "مستشفى أبوه" فيدخل إليه من شاء من مرضى أو حالات مرضية، ويحرم من شاء من الدخول بحجّة أنّه لا يتوفّر أسرّة!
و"الفزعات" تتوزّع على عدة مستويات، فمن المستوى المحلّي الضيّق خاصة على صعيد "طوشات الشوارع"، إلى المستوى الإقليمي على شكل إطلاق الحناجر إستنكاراً على عدوان ما على إحدى الدول الشقيقة وبعث المساعدات التي تعلق دائماً في المناطق الحدودية وإذا وصلت تسهم في الدعم الشكلي والمعنويّ  من باب "رفع العتب" عنّا، فالمستوى العالمي أخيراً المتمثّل في قوات سلام تعمل ليلاً ونهاراً على نشر السلام والمحبّة وحفظ الأمن في ساحل العاج وهاييتي وليبيريا والعالم كلّه، ونحن بصدد إطلاق حملة "فزعة كونية" كمبادرة استثنائية وتعدّ الأولى من نوعها على مستوى المجموعة الشمسية!
"فزعة" كلمة عشوائية جدّاً، لا مكان فيها لنظام، أو زمام عقل، ولا بعد لها أكثر عمقاً من ردّ فعل غير مدروس...
وآخر ما يحتاجه الوطن الآن هو "فزعة" من هذا القبيل..."ما بدنا فزعات، بدنا إنجازات"...

الوطن بحاجة إلى نسمع بعضنا البعض بمحبة واحترام متبادل، أن ندافع عن حقّ بعضنا في إبداء آرائنا، لا أن نفترض أنّ على أبناء الوطن جميعهم أن يفكرّوا بطريقة واحدة ويهزّوا رؤوسهم موافقين على كلّ ما تقوله جهة معيّنة هنا أو هناك وأنّ كلّ من يخرج عن المألوف وكلّ من يعبّر عن رفضه لممارسات معيّنة أو عدم موافقته على أفكار أو طرق تنفيذ معيّنة هو خائن، وصاحب أجندات خارجية! من المفترض أن تعددّ الآراء يسهم في إيجاد حلول أكثر للمشكلات التي تواجهنا، ويسهم في تقدّم الأمم لا في تأخرّها، ولا يعتبر خيانة ولا تآمراً بأيّ حال من الأحوال! ولا أعتقد أنّ الوطن يوافق بأيّ حال من الأحوال أن يتعامل أحد أبنائه مع أخيه بطريق همجية، غير حضارية، مهما كانت اختلافات الرأي بينهما عميقة، ولا أعتقد أن الوطن تهلّل ب"فزعة" شرطي سير لرجال الأمن بأن ضرب مواطناً   متظاهراً ب"منقل" أتساءل أين وجده، وكيف خطر على باله باستعماله كسلاح!
لا أحد ينكر مدى الجهد الذي يبذله رجال الأمن للحفاظ على استقرار الوطن، ولأن الحقيقة لا تحتاج لمن يقدّمها على مسرح، ولا تحتاج لمن يلمّعها كأنّها حذاء، ولا تحتاج أن يقيموا لها مهرجانات في الشوارع، ولأن "الأمم تصنع تماثيل كبيرة للأشياء التي تفتقدها أكثر"، على مفهوم "الفزعة" العشوائي، القصير النظر، الانفعالي البحت، أن ينحصر في "فزعات" "جارات إم محمد" ل"إم محمد" في تحضير وليمة ل"محمد" العائد في إجازة صيفية قصيرة إلى حضن أمه، قبل أن يغادره مجدّداً إلى غربة منحته حياة لائقة وكريمة لا يضطرّ معها إلى الاستدانة آخر الشهر من جيرانه ومعارفه كي يؤمّن احتياجات داره المتواضعة، لكنها سرقت في المقابل من قلبه نور قلبه ومن عينه وجه أمه!

توما
21-7-2011 

السبت، 16 يوليو 2011

...أعلى النهر...



ينقر مربعات الكيبورد، يكتب: لماذا أحسّ أني أعرفك منذ زمن بعيد؟
تجيب: ربما لأنك تعرفني منذ زمن بعيد! وربما لأنني أقول لك ما لا تريد أن تسمعه، فأذكّرك بنفسك!
يكتب: لكنّ نفسي تسايرني أحياناً، وتدللنّي أحياناً أخرى كطفل صغير، وأنت لا تسايرين ولا تساومين، ولا تتنازلين حتى عن أخطائك...كما أنّ عاماً واحداً من التواصل عبر الأثير ليس بزمن طويل...
تجيب: أحياناً، يكفي عام واحد فقط، في الوقت الذي قد لا تكفي فيه عشرة أعوام كاملة...
يكتب: تراك حكيمة هكذا خارج الكلمات؟
.
.
.
.
يكتب: أجابني صمتك!
يكتب: هل نلتقي يوماً؟
تجيب: ونفسد الذي بيننا؟
يجيب: أضحكتني! ربما تكونين على حقّ..لكنّ من يدري، ربما...
تكتب: "ربما" أصل الخسائر جميعها...
يكتب: وأصل أجمل الانتصارات!
تكتب: من خسر كثيراً، يتخلّى عن رغبته في الانتصار، هو فقط لا يريد أن يخسر مجدّداً...
يكتب: ذلك منطق أحمق!
تكتب: "ربما" هو كذلك...لكنّ أليس من الحماقة أيضاً أن نعيد اقتراف أخطائنا ذاتها المرة تلو الأخرى؟؟؟ أليست قلة إيمان أن نلدغ من الجحر ذاته مرات عدة، فلا نكفّ عن دسّ أيدينا فيه المرة تلو الأخرى باحثين عن كنز ليس موجوداً فيه..
يكتب: بل هو موجود فيه، لكن، تقول الرواية، يحرسه ثعبان برؤؤس ثلاثة، لا يغفو، ولا يتعب، ولا يملّ من الانتظار، لكنّ عنكبوتاً صغيراً ملوّناً بالأصفر والأحمر، نادر الوجود، لكنّه موجود، يستطيع أن يقتله بعضّة صغيرة!
تضحك، تضحك كثيراً...
يكتب: أنت تضحكين J
تكتب: وما أدراك أنني أضحك؟ وهذا العنكبوت الصغير الملوّن بالأصفر والأحمر معاً، أين نجده؟
يكتب: لأنني لو كنت على الجهة الأخرى، مكانك، لضحكت! أمّا العنكبوت، هو من يجدنا، ولا يجده أحد ولو بحث كلّ غابات العالم وصحاريه...لذلك علينا أن نمدّ يدنا في كل جحر يصادفنا، دون تردّد، فمن يدري أيّ وقت سيكون فيه العنكبوت الصغير هناك منتشياً بنصره بعد أن عضّ الأفعى فسقطت رؤوسها الثلاث...
تكتب: مللت الخيال المجنون، وأريد لو أحيا في الواقع...
يكتب: صديقتي، أنت حالة ميؤوس منها، والواقع أنّ الواقع لن يستقبلك يوماً على شرفته..
تكتب: حتى المحارب يحظى باستراحة من جراحه..والجميع في النهاية يسبح مع التيّار، أعيب أن أكون واحدة من الجميع؟
يكتب: لا عيب على الإطلاق، بل تلك سنّة الحياة التي تنطبق على المعظم، إلا أنّك تنتمين لنوع آخر من البشر، مبرمج جينياً على السباحة عكس التيار وفي غير ذلك لا يتحقق الهدف من خلقه ووجوده..تماماً كأسماك السلمون..
تكتب: وما قصة أسماك السلمون؟
يكتب: السلمون سمكة مدهشة، تولد في أعلى الأنهار، ثم ترحل مع النهر إلى البحر، حيث تنمو وتكبر ويشتدّ ساعدها، ويحين أوان وضع بيوضها، فتدير وجهها عن البحر، وتشحذ همتها، وطاقتها الكامنة التي خزّنتها عاماً بعد عام من حياتها، وتبدأ رحلة العودة إلى حيث ولدت، سابحة عكس التيار، في رحلة شاقة، قدرية، لا يتحقق معنى وجودها دونها، تهديها رائحة علقت بذاكرتها منذ لحظة خروجها من بيوضها، رائحة لم تفارقها يوماً ولا ساعة، وظلّت تشتدّ مع مرور الزمن حتى سيطرت على كلّ إرادتها، فجذبتها إليها رغم كلّ الخطورة الكامنة في رحلتها تلك...
تكتب: أأنا إذن سمكة سلمون؟!
يكتب: وأنا البحر الذي تديرين وجهك عنه...
تكتب: وهل تعيش أسماك السلمون تلك في سلام وسعادة إلى الأبد بعد انتهاء رحلتها تلك؟
يجيب: بل تموت يا عزيزتي..تضع بيوضها أعلى النهر، ثم تموت..
.
.
.
يكتب: ألا تزالين هنا؟
يكتب: أنت لا تصّدقين الهراء الذي أكتبه، أليس كذلك؟
تكتب: عذراً، عليّ أن أذهب...
يكتب: إلى أين؟
تكتب: ألا تشمّ الرائحة؟؟
يكتب: أيّ رائحة؟
تكتب: الرائحة التي تسكن أعلى النهر..على رحلة العودة تلك أن تبدأ...
وذهبت...

توما
16-7-2011
  

الجمعة، 15 يوليو 2011

...غرباء...



ربما كان رهاناً على الطيبة الموجودة في داخل البشر، ربما كان جنوناً فقط، وربما ربما كانت حالة لا وعي عابرة...وقد يكون ردّاً للجميل، لأنني لي حظّ في الغرباء دائماً، ولأنّ غرباء كثيرين عابرين داووا جراحي بلا حساب ولا مقابل لمّا لم يكن هناك لا يد صديق ولا قريب تحمل قلبي الثقيل معي...

بدا رجلاً طيباً، يملؤه القهر والألم..رجلاً لم يعتد أن يحتاج أحداً من الناس الذين حوله، لم يعتد أن يشكو ضيقه لأحد، أو أن يمدّ يده طلباً لمعونة ما، لكنّ الزمن خانه مجدّداً وحاصره وكسر فؤاده! فهو منذ البدء، صحا فوجد نفسه لاجئاً في بلاد لا تريده، وتتلفت يمنة ويسرة كلما رفع رأسه للأعلى مستنكرة شموخه، لكنّه فعل ما كان عليه فعله، وشقّ طريقه، ثم هجر تلك البلاد لاجئاً في بلاد أخرى، كانت أكثر طيبة وكرماً معه، إلى أن انقلبت الدنيا رأساً على عقب، وتغيّرت القلوب والأهواء، فطردته وإخوته إلى منفى آخر بجيوب فارغة إلا من الحزن والغضب! وفي عمر كعمره، على أعتاب نهاية شبابه وبداية كهولته، لم يجد مهنة ترضى به ولا أهلاً سوى تلك السيّارة الصفراء، التي يدور بها وتدور به شارعاً فشارع، في قيظ الشمس، وحلكة الليل، ليعود آخر النهار بما ييّسر له الله من رزق، ليطعم عائلته الكبيرة، التي ازدادت وردة يانعة قبل عدة أيام، أسماها "شهد".."شهد" التي قضت أيام حياتها الأولى تعاني صعوبة في التنفس في إحدى حاضنات الخداج كانت لا تزال في المشفى برفقة أمها، ينتظران أن يأتيهما بمبلغ معيّن من المال كي يتمّ معاملة إخراجهما من المستشفى إلى شقتهم الصغيرة، المتواضعة الحجم والإمكانيات والمؤهلات لأن تكون بيتاً يحمي ساكنيه، الكبيرة بالحبّ الذي يعششّ بين جدرانها، ولا يكفي ولا يقوى على نفث روح الأحلام الوردية في جسد ماديّ ما، واقع ما من إسمنت وحجر وخبز ولحم طريّ وكتب وأقلام تلوين وأقساط مدارس وجامعات لأبنائه الخمسة!
اتصّال وراء آخر، خيبة أمل وراء أخرى..حتى هؤلاء الذين ما ردّهم يوماً في حاجة ولو على حساب ضيق في الجيب وقلة راحة في العيش، ردّوه بأعذار واهية،أو اعتذروا بلا أسباب... أيّ زمن هذا، الذي تبحث فيه عن رجل واحد يسندك بظهره أو كتفه، فلا تجد!
يطول بنّا الانتظار في ازدحام لا نهائيّ لا مهرب منه ولاسبيل للتراجع عنه...ويقلّ شغف آذاني لاستراق السمع لمكالماته التي تنتهي ب "طيّب يسلمو أبو العبد، ما بتقصّر والله! بستنى منك خبر.."، أو "الحال من بعضو والله يا خيّي، أنا متصّل أتداين منك، طلعت بدّك مين يديّنك!" أو "بسيطة، بسيطة أبو محمد، أنا بدبّر حالي، مشكور خالي" أو "إنسى خلص أنا بس كنت بدّي أطمن عليك، مافي شي والله، والكلّ بخير وببوسّوا إيديك، مر مر نشوفك أبو صبري"...
ينبت قهره من جسده أعشاباً متسلّقة، تملأ السيارة كلّها، وتزداد كثافة وغزارة حتى أحسّها تلتفّ حول عنقي وتخنقني...
ولأن قهر الرجال الصّادق موجع حقّاً، ولأنّ عجز رجل أمام حاجة أسرته ليس مبرّراً في أيّ حال من الأحوال، وليس للدنيّا من حقّ في تقديم اعتذاراتها عنه، ولا يكفيها عمر بقدر عمر آلاف لرجال الذين قهرتهم لتتبرّر من قسوتها، ظللّ روحي شعور بالأسى على ذلك الغريب الذي لا أعرفه، لكنّ سيارة صفراء يقودها هو نحو بيتي خلقت بيننا اتصّالاً إنسانياً عفويّاً غير مقصود، فصرنا مجرد شخصين يخنقهما الحرّ، وتخنقهما الكآبة الجالسة في حضن كلّ منّا، عالقان في ضيق المكان وضيق الروح، ويحاولان بطريقة ما الخروج من هاويتيهما...
سألته عن المبلغ الذي يحتاجه، رفع حاجبيه، وجحظ بعينيه نحو المرآة الأمامية، وحدّق بي بنظرات يملؤها الذهول والرعب في آن معاً..لكنّه كان محاصراً، ولا يملك خياراً آخر سوى الجواب عن السؤال...
وصل الطريق بنّا إلى بيتي، أناوله أجرته، وأتناول رقم هاتفه..بضع ساعات فقط، أراهن أنّ الخير لا زال موجوداً في داخل الناس، "مش كلّ الناس"، "بس في ناس بضّلها لو شو ما تغيّرت الدّنيا_بضّلها ناس"!
المبلغ المطلوب في يد، والهاتف في اليد الأخرى، جاء صوته كما يجب، حزيناً ومليئاً بالامتنان، أجمل ما في الإنسان، أكثر ما فيه حزناً ووقاراً، هو ذاك الشعور، الذي في لحظة يجعل الوحش فينا الغاضب المغرور، المليء بالمرارة والجفاء، القاسي الصلب، الذي بلا حنان، يجعله يعود هيكلاً تسكنه الروح، وتخشع، ولا تخجل من ضعفها، ولا من إحساسها الشفيف الرقيق المدفون عميقاً تحت كثبان من كبريائنا الزائفة، ولا مبالاتنا الحمقاء!

أذكر كلّ غريب مرّ في إحدى الطرق الوعرة الموحشة في حياتي، فأصبحت الطريق بفضله أقلّ وحشة ووعورة، وأمتلىء بالامتنان لكلّ ذكرى...

غرباء نحن، كم نحن غرباء...
ضعفاء نحن، كم ضعفاء..
لكننّا نلتقي، لا بدّ أن نلتقي
فتصير الحياة أخفّ وطئاً، والسماء أقرب، أقرب، أقرب...

توما
15-7-2011

الجمعة، 8 يوليو 2011

...بتحسّ بالعربي...



أنا لست مواطناً غنياً، ولا ابن رجل يشغل منصباً سياسياً أو مركزاً اجتماعياً مهماً، ولا أنتمي لعائلة معروفة أو عشيرة كبيرة على الأقل ليس هنا!
هنا أنا لا زلت لاجئاً غريب الجذور...هنا أنا لا زلت مواطناً من الدرجة الثانية أو الثالثة أو ما دون...
هنا أنا الذي ولدت في هذه الأرض، وظننتها وطني، أو حاولت أن أنتمي بكلّ عقلي وروحي وجسدي، أنام كل يوم على خيبة أمل...
هذه الأرض لا تريدني، ولا تريد جيناتي، ولا أحلامي...هذه الأرض لا تريد حتى أبناءها الذين نبتوا فيها أباً عن جد! هذه الأرض تريد الغرباء فقط، الغرباء عنها، تريد دماء باردة زرقاء، وتنبذ دماءنا الحمراء الحارّة! تريد ألسنة أخرى "ما بتحكي عربي" ولا "بتحسّ بالعربي"، لا تغضب ولا تثور، ولا تتمرّد، ولا تكفر بالظلم، ولا تفتح فمها إلا ثغاء! هذه الأرض تريد أن تغيّر ثوبها، وترتدي ثياباً أجنبية، بلا هوية..تريد أن تنسى أنها تنتمي لما هو أكبر منها، أنها عضو من جسد أكبر، أكثر شمولية! هذه الأرض تريد أن توجعني وتوجعني وتوجعني فقط!
آه، يا وطناً وضعت رأسي عليه كي أغفو، فإذ بي أغفو على حجر...
آه، يا وطناً يهوى من يتملقونه فقط، من يبيعونه في الليل على طاولات القمار، من يهتكون عرضه في عزّ النهار، ولا يغار على النفوس الحرّة التي تسكنه، لا يخاف على أبنائه المتناثرين على الإشارات ليشحدوا بلا كرامة شيئاً من كرامة!
إلى متى، ستبقى تغطّي سماءك بمظلة من معايير مزدوجة، من قوانين طارئة تفسرّ في ضوء الأحداث وعلى حسب أهواء عابرة لأسياد مليئين بالفساد، الفساد فقط!
إلى متى "يا أرضاً عشقناها"، ستوصدين الباب في وجه عشّاقك الصادقين، المدمنين على حبّك، وتفتحين ألف باب آخر_دون مواربة_لمن يخونونك في العلن على العلن!
إلى متى، يا من حفظنا نشيدك الوطني، وسلامك الملكيّ، ورددناه كل صباح في طابور المدرسة، تنتصرين لمن لوثوا بدناءتهم شرفك وعزّك، وتضيعين وقتك ووقتنا في ملاحقة أطراف أذيال لا تستدير يمنة أو يسرة دون توجيه من رؤوس أعلى! أذيال كلما قطعتها نبتت مكانها أذيال أخرى؟!
أيا أرض العزم، أغنية الظبى، أين خبأت سيفك؟ أين_يا وردة_شوكتك؟أين صوتك الذي كان يدّوي من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب مدافعاً عن الحقّ؟!
وطني، أين أهرب منك؟ من غضبك؟ من غضبي عليك؟
وطني، كن وطني..كن أمي، وأبي..كن أهلي!
وطني، لا تخني، لا تخن من أحّبوك حقّاً، من يغارون عليك، من يرون ترابك تبراً، وهوائك نسيماً هارباً من الجنّة، وبعدك لا أرض بعدك ولا وطنا!
وطني، أنا منك، وغيرك لم أرى بلداً، فلا تتركني كالغريب بلا مأوى، ولا تشح بوجهك عني، أنا مثلي مثل أيّ مواطن آخر يسكنك، له عشيرة أو قبيلة تحرسه، واسمه، ينتهي اسمه بتاء مربوطة أو ياء، وأبوه أو عمه أو خاله أو أخوه أو ابن عمه يشغل منصباً ما في الحياة السياسية أو الاجتماعية، وله من المال ما يغفر ذنوبه كلّها، ويرفع مقامه من ذليل وخائن إلى شريف، أنا مثلهم، أيضاً، أخاف، أخاف عليك من سوء الصيت وسوء المصير، بل أخاف عليك أكثر منهم، لأني لا أملك ما هو أغلى منك لأخاف عليه!

مواطن من الدرجة الثانية
8-7-2011 


السبت، 2 يوليو 2011

...جرعة زائدة من الذكرى...





ظننتك تقرأ ما تخطّه الحياة على هامش خطواتك البطيئة الباردة، ظننتك تلتفت إلى يمينك ويسارك ولو خلسة لترى ما تنشغل الطريق به من زهر فوضوي، وأنّك رغم عينيك المطفأتين ترى نوراً أو تبحث عنه حولك في أشياء في متناول يديك..ظننت وما أكثر ما ظننت، فخاب ظنّي...

بالون منتفخ يملؤه غاز أخفّ من الهواء..أنت! وأنا طفلة كانت مأخوذة بلونك وشكلك، لكنّها أفلتت طرف خيطك عن قصد وعن سبق إصرار وترصّد، لتراك وأنت ترتفع وترتفع وترتفع، إلى الأعلى، إلى الأعلى، ثم حزنت على فراقك، وخافت، خافت عليك أن تصطدم بعصفور هائم في السماء يفقؤك بمنقاره، فتسقط مطاطة ممزّقة، لا نفع فيها، لا أمل، تتحسرّ عليها لوهلة قصيرة، ثم تملّ، وتفلّ خارج الحدث، خارج الصفحة، لتضيع في كتاب تجهل من يكتبه بهذه العبثية وذلك الجنون!

أكان عدلاً أن نلتقي فننسى من نكون، وللحظة قصيرة عابرة تلتقي عينانا وتحتكان جسداً بجسد كحجري صوّان، فتقدحان الشرر، وتقلبان المكان رأساً على عقب؟ أكان عدلاً، أن نلتقي فيلتقي فينا عالمان متضادان، متحاربان منذ أقدم الزمن، لن يعقدا هدنة من أجلنا، ولن يتركا لنا نافذة للهرب! أكان عدلاً ما حدث؟

غداً أراك، فأمرّ قربك كالغريبة، وتراني فتهرب عيناك بعيداً كي لا تراني...
غداً يجمعنا القدر الساخر ليضحك قليلاً من سخافتنا، من "ولدنتنا"، ليهزأ بكبرياء حمقاء تقتلنا، لكنّنا نترك كلّ شيء ونتبعها لتقتل ما تبّقى فينا ومنّا...

أجلس على قارعة الطريق، أبيع "ترمساً" مسلوقاً للعابرين، وأحلاماً وزوارق من ورق، كلّهم يشترون الترمس، ويتركون أحلامي وزوارقي لي، لا أحد، لا أحد يحمل أوراقاً نقدية من أثير ذهبيّ ليشتريها...قلت لي يوماً أنّك كنت لتشتريها، زوارقي كلّها، لكنّك مررت من أمامي بسيارتك الجيب ولم تتوقف ولو فقط لإلقاء التحيّة... 

ليست الحقيقة ما يقتلنا، تقتلنا أنصاف الحقائق فقط..فلتكن صادقاً أو كاذباً لا بين بين، وإن ارتكبت جريمة، فلتكن كاملة كبدر، لا هلالاً شاحباً مكسور الخاطر وضعيف الظّل..أو ارتكبت فضيلة، فلتكن علنيّة لا في الخفاء كسرقة!

أذهب إلى السينما، يأتي الفراغ ويجلس إلى جانبي، يملأ مكانك، يمدّ رجليه ثم يطويهما تحته، يتأفف، حتى يجد الوضعية التي تريحه في جلسته، يندمج في المشاهد المعروضة على الشاشة، يغرق في تسلسل الأحداث إلى أن تصل إلى المرحلة المعتادة من الملل، فيلتفت إليّ، ويسرق منّي قهوتي، يرتشفها قليلاً قليلاً، يترك لي رشفة أو اثنتين، يخرج ليدخّن سيجارة أو سيجارتين، ويتركني وحدي مع وحدي، يعود، يتأفف مجدّداً، يضحك مرة أو اثنتين فقط لا أكثر، فالفراغ يجيد الحفاظ على وقاره مثلك أيضاً، فلا يفرط بالضحك، ولا يفرط بالكلام، ولا يفرط بالحزن، ولا بالغضب، ولا يفرط بالحبّ لأنّه إن فعل يصير إنساناً، وتلك منزلة أعلى من منزلته، وقد فقد منذ زمن استحقاقه لها! والفراغ مثلك، سيّد مهذّب، يناولني معطفه إذ أرتجف من البرد قربه، ولا يحيطني بذراعه..كم مهذّب هو الفراغ، وكم باردة قاعات السينما، وكم تشبهان بعضكما أنت والسيّد فراغ، للدرجة التي لم أعد أميّز فيها بينكما!

أكتب، وأكتب، وأكتب، رسائل لن تصل، هلوسات، والكتابة مرض مزمن لا شفاء منه، لا دواء..أما أنت، فحالة إدمان فقط، لا بدّ في النهاية أن أنتصر عليها، رغم الانتكاسات المتكرّرة، ورغم الحنين الذي يغزو الجسد أحياناً كالحمّى..وإن كان لا فرار من الموت بجرعة زائدة، فلتكن جرعة زائدة من الأحلام..لا من الذكرى...

توما
3-7-2011