ربما كان رهاناً على الطيبة الموجودة في داخل البشر، ربما كان جنوناً فقط، وربما ربما كانت حالة لا وعي عابرة...وقد يكون ردّاً للجميل، لأنني لي حظّ في الغرباء دائماً، ولأنّ غرباء كثيرين عابرين داووا جراحي بلا حساب ولا مقابل لمّا لم يكن هناك لا يد صديق ولا قريب تحمل قلبي الثقيل معي...
بدا رجلاً طيباً، يملؤه القهر والألم..رجلاً لم يعتد أن يحتاج أحداً من الناس الذين حوله، لم يعتد أن يشكو ضيقه لأحد، أو أن يمدّ يده طلباً لمعونة ما، لكنّ الزمن خانه مجدّداً وحاصره وكسر فؤاده! فهو منذ البدء، صحا فوجد نفسه لاجئاً في بلاد لا تريده، وتتلفت يمنة ويسرة كلما رفع رأسه للأعلى مستنكرة شموخه، لكنّه فعل ما كان عليه فعله، وشقّ طريقه، ثم هجر تلك البلاد لاجئاً في بلاد أخرى، كانت أكثر طيبة وكرماً معه، إلى أن انقلبت الدنيا رأساً على عقب، وتغيّرت القلوب والأهواء، فطردته وإخوته إلى منفى آخر بجيوب فارغة إلا من الحزن والغضب! وفي عمر كعمره، على أعتاب نهاية شبابه وبداية كهولته، لم يجد مهنة ترضى به ولا أهلاً سوى تلك السيّارة الصفراء، التي يدور بها وتدور به شارعاً فشارع، في قيظ الشمس، وحلكة الليل، ليعود آخر النهار بما ييّسر له الله من رزق، ليطعم عائلته الكبيرة، التي ازدادت وردة يانعة قبل عدة أيام، أسماها "شهد".."شهد" التي قضت أيام حياتها الأولى تعاني صعوبة في التنفس في إحدى حاضنات الخداج كانت لا تزال في المشفى برفقة أمها، ينتظران أن يأتيهما بمبلغ معيّن من المال كي يتمّ معاملة إخراجهما من المستشفى إلى شقتهم الصغيرة، المتواضعة الحجم والإمكانيات والمؤهلات لأن تكون بيتاً يحمي ساكنيه، الكبيرة بالحبّ الذي يعششّ بين جدرانها، ولا يكفي ولا يقوى على نفث روح الأحلام الوردية في جسد ماديّ ما، واقع ما من إسمنت وحجر وخبز ولحم طريّ وكتب وأقلام تلوين وأقساط مدارس وجامعات لأبنائه الخمسة!
اتصّال وراء آخر، خيبة أمل وراء أخرى..حتى هؤلاء الذين ما ردّهم يوماً في حاجة ولو على حساب ضيق في الجيب وقلة راحة في العيش، ردّوه بأعذار واهية،أو اعتذروا بلا أسباب... أيّ زمن هذا، الذي تبحث فيه عن رجل واحد يسندك بظهره أو كتفه، فلا تجد!
يطول بنّا الانتظار في ازدحام لا نهائيّ لا مهرب منه ولاسبيل للتراجع عنه...ويقلّ شغف آذاني لاستراق السمع لمكالماته التي تنتهي ب "طيّب يسلمو أبو العبد، ما بتقصّر والله! بستنى منك خبر.."، أو "الحال من بعضو والله يا خيّي، أنا متصّل أتداين منك، طلعت بدّك مين يديّنك!" أو "بسيطة، بسيطة أبو محمد، أنا بدبّر حالي، مشكور خالي" أو "إنسى خلص أنا بس كنت بدّي أطمن عليك، مافي شي والله، والكلّ بخير وببوسّوا إيديك، مر مر نشوفك أبو صبري"...
ينبت قهره من جسده أعشاباً متسلّقة، تملأ السيارة كلّها، وتزداد كثافة وغزارة حتى أحسّها تلتفّ حول عنقي وتخنقني...
ولأن قهر الرجال الصّادق موجع حقّاً، ولأنّ عجز رجل أمام حاجة أسرته ليس مبرّراً في أيّ حال من الأحوال، وليس للدنيّا من حقّ في تقديم اعتذاراتها عنه، ولا يكفيها عمر بقدر عمر آلاف لرجال الذين قهرتهم لتتبرّر من قسوتها، ظللّ روحي شعور بالأسى على ذلك الغريب الذي لا أعرفه، لكنّ سيارة صفراء يقودها هو نحو بيتي خلقت بيننا اتصّالاً إنسانياً عفويّاً غير مقصود، فصرنا مجرد شخصين يخنقهما الحرّ، وتخنقهما الكآبة الجالسة في حضن كلّ منّا، عالقان في ضيق المكان وضيق الروح، ويحاولان بطريقة ما الخروج من هاويتيهما...
سألته عن المبلغ الذي يحتاجه، رفع حاجبيه، وجحظ بعينيه نحو المرآة الأمامية، وحدّق بي بنظرات يملؤها الذهول والرعب في آن معاً..لكنّه كان محاصراً، ولا يملك خياراً آخر سوى الجواب عن السؤال...
وصل الطريق بنّا إلى بيتي، أناوله أجرته، وأتناول رقم هاتفه..بضع ساعات فقط، أراهن أنّ الخير لا زال موجوداً في داخل الناس، "مش كلّ الناس"، "بس في ناس بضّلها لو شو ما تغيّرت الدّنيا_بضّلها ناس"!
المبلغ المطلوب في يد، والهاتف في اليد الأخرى، جاء صوته كما يجب، حزيناً ومليئاً بالامتنان، أجمل ما في الإنسان، أكثر ما فيه حزناً ووقاراً، هو ذاك الشعور، الذي في لحظة يجعل الوحش فينا الغاضب المغرور، المليء بالمرارة والجفاء، القاسي الصلب، الذي بلا حنان، يجعله يعود هيكلاً تسكنه الروح، وتخشع، ولا تخجل من ضعفها، ولا من إحساسها الشفيف الرقيق المدفون عميقاً تحت كثبان من كبريائنا الزائفة، ولا مبالاتنا الحمقاء!
أذكر كلّ غريب مرّ في إحدى الطرق الوعرة الموحشة في حياتي، فأصبحت الطريق بفضله أقلّ وحشة ووعورة، وأمتلىء بالامتنان لكلّ ذكرى...
غرباء نحن، كم نحن غرباء...
ضعفاء نحن، كم ضعفاء..
لكننّا نلتقي، لا بدّ أن نلتقي
فتصير الحياة أخفّ وطئاً، والسماء أقرب، أقرب، أقرب...
توما
15-7-2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق