ظننتك تقرأ ما تخطّه الحياة على هامش خطواتك البطيئة الباردة، ظننتك تلتفت إلى يمينك ويسارك ولو خلسة لترى ما تنشغل الطريق به من زهر فوضوي، وأنّك رغم عينيك المطفأتين ترى نوراً أو تبحث عنه حولك في أشياء في متناول يديك..ظننت وما أكثر ما ظننت، فخاب ظنّي...
بالون منتفخ يملؤه غاز أخفّ من الهواء..أنت! وأنا طفلة كانت مأخوذة بلونك وشكلك، لكنّها أفلتت طرف خيطك عن قصد وعن سبق إصرار وترصّد، لتراك وأنت ترتفع وترتفع وترتفع، إلى الأعلى، إلى الأعلى، ثم حزنت على فراقك، وخافت، خافت عليك أن تصطدم بعصفور هائم في السماء يفقؤك بمنقاره، فتسقط مطاطة ممزّقة، لا نفع فيها، لا أمل، تتحسرّ عليها لوهلة قصيرة، ثم تملّ، وتفلّ خارج الحدث، خارج الصفحة، لتضيع في كتاب تجهل من يكتبه بهذه العبثية وذلك الجنون!
أكان عدلاً أن نلتقي فننسى من نكون، وللحظة قصيرة عابرة تلتقي عينانا وتحتكان جسداً بجسد كحجري صوّان، فتقدحان الشرر، وتقلبان المكان رأساً على عقب؟ أكان عدلاً، أن نلتقي فيلتقي فينا عالمان متضادان، متحاربان منذ أقدم الزمن، لن يعقدا هدنة من أجلنا، ولن يتركا لنا نافذة للهرب! أكان عدلاً ما حدث؟
غداً أراك، فأمرّ قربك كالغريبة، وتراني فتهرب عيناك بعيداً كي لا تراني...
غداً يجمعنا القدر الساخر ليضحك قليلاً من سخافتنا، من "ولدنتنا"، ليهزأ بكبرياء حمقاء تقتلنا، لكنّنا نترك كلّ شيء ونتبعها لتقتل ما تبّقى فينا ومنّا...
أجلس على قارعة الطريق، أبيع "ترمساً" مسلوقاً للعابرين، وأحلاماً وزوارق من ورق، كلّهم يشترون الترمس، ويتركون أحلامي وزوارقي لي، لا أحد، لا أحد يحمل أوراقاً نقدية من أثير ذهبيّ ليشتريها...قلت لي يوماً أنّك كنت لتشتريها، زوارقي كلّها، لكنّك مررت من أمامي بسيارتك الجيب ولم تتوقف ولو فقط لإلقاء التحيّة...
ليست الحقيقة ما يقتلنا، تقتلنا أنصاف الحقائق فقط..فلتكن صادقاً أو كاذباً لا بين بين، وإن ارتكبت جريمة، فلتكن كاملة كبدر، لا هلالاً شاحباً مكسور الخاطر وضعيف الظّل..أو ارتكبت فضيلة، فلتكن علنيّة لا في الخفاء كسرقة!
أذهب إلى السينما، يأتي الفراغ ويجلس إلى جانبي، يملأ مكانك، يمدّ رجليه ثم يطويهما تحته، يتأفف، حتى يجد الوضعية التي تريحه في جلسته، يندمج في المشاهد المعروضة على الشاشة، يغرق في تسلسل الأحداث إلى أن تصل إلى المرحلة المعتادة من الملل، فيلتفت إليّ، ويسرق منّي قهوتي، يرتشفها قليلاً قليلاً، يترك لي رشفة أو اثنتين، يخرج ليدخّن سيجارة أو سيجارتين، ويتركني وحدي مع وحدي، يعود، يتأفف مجدّداً، يضحك مرة أو اثنتين فقط لا أكثر، فالفراغ يجيد الحفاظ على وقاره مثلك أيضاً، فلا يفرط بالضحك، ولا يفرط بالكلام، ولا يفرط بالحزن، ولا بالغضب، ولا يفرط بالحبّ لأنّه إن فعل يصير إنساناً، وتلك منزلة أعلى من منزلته، وقد فقد منذ زمن استحقاقه لها! والفراغ مثلك، سيّد مهذّب، يناولني معطفه إذ أرتجف من البرد قربه، ولا يحيطني بذراعه..كم مهذّب هو الفراغ، وكم باردة قاعات السينما، وكم تشبهان بعضكما أنت والسيّد فراغ، للدرجة التي لم أعد أميّز فيها بينكما!
أكتب، وأكتب، وأكتب، رسائل لن تصل، هلوسات، والكتابة مرض مزمن لا شفاء منه، لا دواء..أما أنت، فحالة إدمان فقط، لا بدّ في النهاية أن أنتصر عليها، رغم الانتكاسات المتكرّرة، ورغم الحنين الذي يغزو الجسد أحياناً كالحمّى..وإن كان لا فرار من الموت بجرعة زائدة، فلتكن جرعة زائدة من الأحلام..لا من الذكرى...
توما
3-7-2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق