الثلاثاء، 28 يونيو 2011

...بلا ثمن...


قالوا : تبكي منذ الصّباح، تبكي بحرقة كأنّها فقدت ولداً أو أباً..
قالوا: لا ندري ماذا نفعل لها، أيّ شيء يعزّيها..!
قلت: اتركوها...اتركوها تبكي حتى آخر قطرة ماء في جوفها، حتى آخر قطرة شوق، وحدها الدموع تشفي، وتمحو ما علق بالذاكرة...
فالوا: لكنّه عصفور، عصفور فقط، ثمنه بضعة دنانير، بضعة دنانير وقروش قليلة، غداً نحضر لها غيره، ولو أرادت نشتري لها عصفوران!
قلت: أما كان له اسم تنادي به عليه؟ أما كانت تتوهمّ أنّه يتلفتّ نحوها بعينيه الصغيرتيّن لمّا تناديه؟ أمّا كانت تصحو في الصّباح الباكر على صوته ظنّاً منها أنّه كان يصحو خصيصاً كي يغنّي لها وحدها؟ وطعامه، ذاك الصغير الذي يكاد لا يأكل شيئاً، أمّا كانت تعدّ وليمة له رغم علمها بضيق حلقه وضعف شهيته وتواضع حاجته للطعام أصلاً؟ وقفصه الذي كان يخنقه كلّ لحظة أكثر، أما كانت تملأه بدولاب هنا وحوض ماء هناك، كي يتسلّى وينسى عزلته وقسوة حبسه الإنفراديّ؟ ولمّا أصابه الوهن قبل أيام عدة، أمّا تأهبّ القلق في عينيها كمّا يتأهبّ في عينيّ أمّ تترك يد طفلها ليتركها راكضاً نحو ساحة المدرسة؟

عصفور فقط، هذا كلّ ما هو عليه، لكنّه كان صديقها الذي يكسر صمت غرفتها الضيّقة فتتسع، وحبيبها الذي تناجيه فيناجيها، وتحنّ عليه فيحنّ عليها، وطفلها الصّغير الذي يرمي بأعبائه الصغيرة على كاهلها، فتصير شخصاً مسؤولاً، شخصاً ذا أهميّة، ويصير لوجودها العبثيّ على الأرض مبرّر وحجة مقنعة...

*****************************************
أطرق بابها بخفة، ثم أسمح لنفسي بالدخول دون أن أنتظر إذنها...
أمام القفص كانت..تجلس على كرسيّها المتحرّك، صديقها الآخر، وامتداد جسدها منذ أقصى الطفولة..
صوت نحيبها يخترق القضبان الحديدية ويكاد يهزّها..باب القفص كان مفتوحاً، حوض الماء مملوء حتى آخره، مخزن الطعام ينتظر من يمدّ منقاره ليأكل، والريش الأصفر يغفو على أرض القفص بلا لحن، بلا نغم...

أربّت على كتفيها، أصافح رونق حزنها، أنحني أمامه خجلاً، أذوق خبزه الطازج، أغمسّه بملحه، أحفظ رائحته، إذن هكذا هي رائحة الحزن الصادق، حادة كرشة قرفة، وحيدة كزهرة نرجس، وبيضاء بيضاء كموج يغرق متلاحقاً في قاع البحر...

عصفور فقط، يكاد يكون بلا ثمن، فقير، ضعيف، بائس، لا يملك سوى ريشه الملوّن وصوته، وبضعة نوتات مجانيّة منحته إياها السماء، فغنّاها للآخرين دون مقابل..
عصفور بلا ثمن، أفجعها غيابه...

كم نحن أفضل من عصافير كثيرة، لكنّني غبت فما أفجعك غيابي، وغبت فما أفجعني غيابك!


توما
28-6-2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق