الخميس، 25 أكتوبر 2012

...بسمة...




لست مغرورة، ربما بعض الشيء فقط، لكنني لست شخصاً متعالياً لدرجة لا تطاق، كلّ ما في الأمر أنّي صعبة المراس أحياناً، وأنّي إذ أقسو، لا أقسو على أحد سواي، وإذ أفعل ذلك، فأنا أقسو كثيراً عليّ، إلى أن تصاب نفسي بالذعر، وبالحزن العميق، ويفترسها الغضب، الغضب على ذاتها، ذاتها فقط، فيختفي الضوء الذي كان في عينيها، ويحلّ مكانه فراغ، هوة سحيقة سوداء، تبتلع حتى الصوت، فلا ترجع أيّ صدى!
**************************************
كبرت، كبرت كثيراً يا أمي..وكبرت أنت أيضاً...
تأتين، تجلسين على طرف سريري، أخبىء وجهي تحت اللحاف، مدعيّة نوماً عميقاً لا ينفقأ، ومخفية دموعاً تسيل على وجنتيّ.. لكنّك أنت التي يحرقك خدّاك قبل أن تسيل دموعي على خديّ، تعلمين، تشعرين أيّ مرارة تعشّش في قلبي...
كبرت يا أمي، كبرت، وصرت فتاة ناضجة قادرة على حلّ مشاكلها بنفسها، قادرة على حمل صليب حزنها وحدها..كبرت، وصرت أخجل أن أرمي رأسي في حضنك، أن أتسللّ إلى فراشك، أن أبكي على صدرك، أن أقول لك أنّي حزينة، حزينة جداً، وأنّ قلقك الذي لا يهدأ عليّ ليس بدون مبرّر...
كبرت، وصرت أخجل أن أقول لك أنّي أحتاجك، أحتاجك جدّاً، أحتاج أن تأتي لتجلسي على طرف سريري كما كنت تفعلين دائماً في صغري ومراهقتي، ثم تطوقينني بذراعيك، فيعود الدفء لهذا العالم فجأة، وفجأة، تستعيد الحياة معناها!
كبرت، وصرت مغرورة جداً، ولي كبرياء وكلمات أخرى لا أفهم حقّاً معناها، ولا أفهم حقّاً كيف لها أن تجعل منّي شخصاً أفضل، أو أقوى، أو أصلب...
أمي، أنا لا أريد أن أصبح شخصاً أقوى، ولا أريد أن أصبح شخصاً أصلب..باردة تلك الكلمات، باردة كالجثث في ثلاجة المشرحة، بلا روح، لا تنزّ دماً إذ تجرح، ولا تشدّ يدها على يدي إذ أضغط بأصابعي لأواسي وحدتها، ولا تتحرك لتبعد ناموسة استباحت وجهها، ولا تهلع إذ يسقط شاب يافع على رأسه مغمىً عليه إذ يطلب منه التعرّف على هويتها!
*************************************
مغرورة أنا يا أمي، وكاذبة جداً، إذ أدّعي أنّي لا أشاركك همومي كي لا أجلب صداعاً إضافياً لرأسك..كي لا أضيف كآبة أخرى لسلسلة كآباتك، فأنا أعلم تماماً، أنّك تجسّين كلّ وجع يطرق نوافذ صدري ليلاً ونهاراً، وأن الطرق المستمر هو سبب أرقك المزمن الذي لا يشفى بحبّة دواء وكوب حليب ساخن في المساء.
لكنّي، كما قلت لك، فتاة ناضجة، تكاد تكمل عامها الثلاثين، وفي الثلاثين يا أمي، لا يعود هناك متسع للشكوى من خيبة جديدة، ولا وقت نضيعه في التحسّر على تجربة فشلنا فيها، أو على مبارزة خسرناها في ميدان الحياة..علينا أن نشدّ على جرحنا ونمضي، أن نقف وننفض الغبار عن ملابسنا، ونتجاهل ألم الكدمات التي أصبنا بها، أن نبتسم ابتسامة عريضة، ابتسامة من لم يعرف سوى النصر ، ابتسامة المتعاطف مع المهزومين، ابتسامة التعالي والمكابرة، ابتسامة من لا يحتاج شيئاً من أحد، ونواصل الطريق كأنّ من سقط كان غيرنا، كأنّ الجرح يخصّ سوانا!
***************************************
أمي، اليوم أكتب لك، لا ليس كما في صغري، لا ليس كما تحبيّن، كلمات تذيب القلب من حلاوتها، شعراً يتغزّل في طهارة قلبك، وحنو يديك، وتواضع روحك، وجمال محياك، وعمق عينيك..اليوم أكتب لك، عن غضبي منك، ومني، ومن هذه المسافة التي لا تختصرها الكلمات بيننا..!
***************************************
كم أشبهك، وكم يستفزني ذاك الشبه، وترعبني مجرد فكرة أني سأكبر لأصير نسخة أخرى منك..
أنا أضعف من ذاك الحمل أمّاه، ولن أنجح يوماً في احتراف دور القديسة أو الشهيدة، فأنا أشدّ أنانية من ذلك، أقلّ طهارة، والتزاماً، وسحقاً للذات!
ولا، لا أريد أن ينتهي بي الأمر ببذل كلّ وقتي وتفكيري، وجهدي في سبيل أطفال اخترقوا طريقهم عبري، فأحببتهم رغم كلّ ما سببوه لي من ألم، أطفال سيكبروا، ويظنّوا أنهم ما عادوا بحاجتي، أطفال لن يفهموا مهما بلغوا من العمر أنّ سرّتي لا تزال تفتقد الحبال التي كانت بيني وبينهم، أطفال سيتركونني يوماً، وسأتخبّط بعدهم في البحث عن تلك الفتاة التي أضعتها يوماً في ذات المحطّة التي وجدتهم فيها!
أمي، ما كان عليك أن تتركيها، تلك الفتاة، ما كان عليك أن تضيعيها، ولو وجدتنا...
***************************************
تعال لنبحث عنها سوياً، تعال لنكتشف في أيّ حلم ضاعت تلك الصبيّة، من علّمها أن تقول "نعم" للحياة كلّما كان عليها أن تقول "لا"، من أقنعها أنّ الحبّ مرادف للتضحية، التضحية فقط، فسلب من الحبّ أغانيه وفرحه ورقصه واشتعاله وطفولته الدائمة، من بادلها الحياة، حياتها، وخياراتها، وطموحاتها، وأحلامها، بحياة وخيارات وطموحات وأحلام آخرين حملوا ملامحها فقط، ونسوا أن يسألوها إلى أين كانت ترغب هي بالذهاب!
أحقّاً كانت وجهتك وجهتنا؟
أحقّاً كانت أحلامك أحلامنا؟
أحقّاً كنتنا وكنّاك؟
********************************
أمي، أيتّها الغالية...لا تصّدقيني، أنا لم أكبر أبداً، تعالي وطوقيّني، ودعي دمعي يمطر على راحتيك ليتقدّس، واحملي معي قلبي، فأهدأ!
*********************************
أمي، كلّ عام وأنت أجمل، بكلّ تفاصيلك، بكلّ آثار تعب العمر التي تمقتينها وأحبّها، بكلّ الشوق والقلق الذي تحاولين تخبئته في ثنايا روحك كي لا تثقلي علينا بإلحاحك للاطمئنان علينا فتؤول محاولتك للفشل في كلّ مرة، بكلّ التوق والحبّ الذي يحتقن داخل صدرك وينتظر منّا أن نرضعه كما كنّا نفعل صغاراً، فنكابر ببلاهة الكبار وحمقهم ونبقى جائعين إليك وتبقين غارقة بألم الحبّ الذي لم يبذل!
أمي، كلّ عام  وأنت "بسمة" على شفاهنا تضيء، وتكبر ، وتمتدّ لتبعد عنّا كلّ شرّ وكلّ حزن وكلّ داء، وتمسح عن أيامنا التعب بصلواتها، ومسيحها وعذرائها وقديسيها وقديساتها، وبحسب اتفاق مبرم بين كلّ أمّ وأبانا الذي في السماء!

توما
26-10-2012