السبت، 13 أغسطس 2011

...ليتنا نصاب بالعدوى...





أصل مكان عملي، أصعد إلى الطابق الخامس، كالعادة كان هناك، يمسح الممر المقابل لغرف المرضى، أبادله تحيّة الصّباح، يبتسم، ويرحّب بي ببشاشة وخفّة دمّ المصريين التي تميّزهم أينما وجدتهم...
"مناوبة يا دكتورة؟" يسألني،
"إنشالله" أجيب، وأمضي،
أسمعه يدعو لي من خلف ظهري...
"الله يقويّكي ويديكي العافية"
تبتسم شفتاي، أشكره، وأتجه نحو غرفة الطبيبات، أجد الغرفة في حالة يرثى لها، الفوضى تعمّ المكان، وسلة المهملات لا تتسعّ للقاذورات التي في داخلها، لا أجد مفرّاً من الاستعانة به لتنظيف الغرفة، رغم ما يصيبني من خجل عارم في مثل تلك المواقف، فيبادر بلا تردّد لفعل ما يلزم، أشكره، وأنطلق خارجة لأبدأ جولة المرور على المرضى في الطابق الثالث في قسم الجراحة. يستوقفني:
"دكتورة، ممكن أسألك سؤال؟"،
"بالنسبة لمريض السكري، إيه إللي بحدّد إمتى رجلو بتتئطع لما يكون في التهاب برجلو؟"
أشرح له الأعراض والعلامات الدّالة على عدم وجود حلول أخرى لشفاء المريض سوى بتر قدمه، ثم أستفسر عن سبب سؤاله..
يخبرني أنّ مريضة كانت ترقد هنا في إحدى غرف قسم الباطنية العامة، تمّ نقلها منذ بضعة أيام إلى قسم الجراحة بسبب وجود التهاب في قدمها، وأنّ طبيب الجراحة أبلغها أن عليه بتر قدمها وأنّ لا حلّ آخر أمامه في حالتها، ولكنّ المريضة ترفض الإجراء الطبيّ المقترح، وتجد صعوبة في تقبلّ واقع الأمر، وأنّه قلق عليها لذا فقد سألني ليفهم السبب وراء قرار الطبيب. سألته عن اسم المريضة، ورقم غرفتها، وعن صلة قرابتها به، يخبرني:
"ما تئربنيش، بس تهمّني والله يا دكتورة"..
أفترض أنّها مصرية الجنسية، فالمصريون في الغربة كلهم أقرباء بعض، ولطالما شاهدتهم يتكاتفون معاً ويصبحون يداً واحدة لمّا يتعلقّ الأمر بأحدهم ولو التقوا للتو، وأذكر قبل فترة ليست ببعيدة لمّا جاءنا شاب مصريّ محمولاً على أكتاف المصريين العاملين معه في ورشة البناء بعد أن سقط من سقّالة على ارتفاع عشرة أمتار، وكان يعاني من نزيف داخليّ في بطنه وإصابات في كبده وكليته، واحتاج عمليّة طارئة لإنقاذ حياته، أذكر أنّ ما من عامل أو مراسل أو موظّف مصريّ بغضّ النظر عن وظيفته في المستشفى إلا وأتى ليسألني عن حالته، ويطمئن عن استقرار وضعه، ويوصيني عليه، ولعدّة أيام متتالية، حتى صرت أسرع الخطو في ممرّات المستشفى، وأتظاهر الانشغال بمكالمة ما إذا رأيت أحدهم متجهّاً نحوي لمللي من كثرة الأسئلة وتكرارها، إلى أنّ تحسّن الشاب، وخرج من المستشفى عائداً إلى مصر ليقضي فترة نقاهته وسط أهله...

************************************

أبدأ جولتي على المرضى، أصل المريضة التي أوصاني عليها، أسألها عن حالها، فتجيبني بلهجة أردنيّة واضحة لا يمكن الشكّ فيها، أخبرها أنه أوصاني عليها، فتذكره بالخير، وتخبرني أنّه كان يساعد ابنتها في حملها من السرير إلى الحمام لقضاء حاجتها ومن ثمّ إعادتها إلى السرير، وفي إحضار ما يلزمها من كافتيريا الطابق الأرضيّ وأنّه كان يوصي الممرّضّات بها، كأنّها قريبته أو أكثر!
أكشف عن قدمها، وأقوم بما يلزم لتنظيفها من الأنسجة الميتة، وغسلها، ومن ثمّ تضميدها، تشكرني، أتمنّى لها الشفاء، ومن ثمّ أواصل جولتي على المرضى، أتجّه بعدها إلى العمليات، زائدتان دوديتّان ملتهبتان، إحداهما لطفل في الثامنة، يشكو من ألم خاصرته اليمنى منذ خمسة أيام، ويعالج رغم وضوح علاماته السريرية من "البرد" حتى انفجرت زائدته الدودية في بطنه!
أعود إلى غرفة الطبيبات في الطابق الخامس، أغسل وجهي، وأعدّ كوباً من القهوة، أطلّ من النافذة، أرتشف قهوتي على مهل، وأراقب الليل يلفّ عمّان بعباءته الطويلة، المزيّنة بأضواء المدينة البعيدة التي تتلألأ في القاع نجوماً صغيرة...

طرقات خفيفة على باب الغرفة تقطع عليّ استغراقي في المشهد، أفتح الباب لأجده واقفاً هناك، يشكرني بحرارة على مروري على المريضة التي أوصاني عليها، أمتلأ بالدهشة، وأخبره أنّي لم أفعل شيئاً أكثر ممّا يتوجبّ عليّ فعله، وأنّ مروري عليها كان جزءاً من عملي فقط، لا يسمعني ويواصل شكري، يسألني إن كنت بحاجة لأي شيء، فأشكره، ثم يذهب ويتركني في حيرة من أمره!

يمرّ الليل ويأتي صباح اليوم التالي، أنهي ما تبقّى من عمل الليلة الفائتة، وأستعدّ للعودة إلى بيتي، أخرج من الغرفة، وهناك في الممرّ المؤدي للمصاعد كان هناك، يمسح الأرض بنفس الهمّة والنشاط...
ألقي عليه تحيّة الصّباح، ثم أقول مداعبة:
"هو إنتا ساكن بالمستشفى؟ ما بتروّحش؟"
يجيبني بابتسامة عريضة:
"هو إنتي إللي بتروّحي يعني؟"

ألوّح له مودّعة وأتجه صوب البيت،
أتركه هناك، هو لن يعود إلى بيته اليوم، ولا غداً، ولا بعد غد...

أذكر معه، أم ملك السيّدة المصريّة العجوز التي تعاني من آلام المفاصل، والتي خضعت لعملية جراحية في عينيها، ولكنّها واظبت على الحضور لعملها في مستشفى حكومي آخر، لتحافظ على نظافة غرفة الممرّضات وتعدّ القهوة والشاي للأطبّاء في استراحة العمليات، وكنت إذ أصادفها تمطرني بدعواتها لي بالتوفيق، وبالنجاح وبعريس ابن حلال، وتطبع على وجهي قبلتين كأنّني ابنتها الغائبة...
ورشا الصبيّة المصريّة الطيبّة القلب والوجه، بابتسامتها الواسعة الجميلة، والتي ظلّت تتصلّ بي حتى بعد أن تمّ نقلي إلى مستشفى آخر، وتدعوني إلى فنجان قهوة سادة تحضّره لي بيديها لتطمئن عليّ، وتبعث لي في الأعياد بتمنيّاتها لي بالخير والسعادة..
ومحمد الذي دفع سرير أمي إلى العمليات ذات يوم وظلّ يلقي بنكاته ليضفي على قلبها البهجة ويدخل إليه الاطمئنان، ثم انتظرها حتى خرجت من العملية واطمئن عليها، وواصل بعدها سؤالي عن صحتها وبعث سلامه إليها، وغيرهم الكثيرين من البسطاء الطيبين الذين يعبرون باب القلب دون أن ينتبه القلب أنهم لم يكونوا هناك أصلاً...

ليتنا نصاب بالعدوى من المصريين...


توما
14-8-2011

هناك تعليقان (2):

  1. ياريت الناس بتتصرف بهيك اسلوب ... اسلوب التعامل مريح للنفس
    افضل من اسلوبنا الي بتحسيه خالي من اي لطف او ابتسامه ولو كان فيه ابتسامه بتحسي انو فيه اشي وراها
    عموما مافي شي جديد ممكن احكيه عن كتاباتك زي العادة
    رائع :D

    ردحذف
  2. عذراً على الرد المتأخر قط البكتيريا :) يا ريت فوق يا ريتك! وشكراً على تعليقك، سعيدة بحبك لما أكتب!

    ردحذف