السبت، 22 يناير 2011

محاطة بأعمال يديك... (إلى روح رأفت عزام)




أصحو من النوم، أرى وجهك أمامي باسماً ابتسامته العريضة تماماً كما في تلك الصباحات التي كنت تجلس فيها أمام محترفك الصغير وتنتظرني...
شعرك الرماديّ الذي يضيف شيئاً من الوقار والحزن إلى هالة الألق التي تحيط بك طال قليلاً وصار فوضوياً أشعثاً كما أحبّه...
النور في عينيك يلمع دامعاً بشيء من الشوق وشيء من الفرح...
كنت أعلم تماماً أنك لم تمت كما قالوا، كنت أعلم تماماً أن جلطة واحدة لا تكفي ليعلن قلبك استسلامه، قلبك حديقتي السرية التي كنت أتسلق جدرانها خفية لأغفو على زغب عشبها الطريّ وألعق نداه، فأنسى أنني لست سوى تلك الطفلة الصغيرة الحافية القدمين المقبلة على الدنيا بنهم، وأنّ العالم بأسره ليس سوى الجنّة التي ظنّ آدم أنّه طرد منها...
أقترب منك، أعانقك جسداً وروحاً، أين غبت عني كلّ هذا الزمن؟
تلفّ ذراعيك حولي، فأشتم رائحة "الجريب فروت" الذي كنت تعصره لي بيديك كلّما جئتك عطشة أريد أن أشرب!
أمسك يديك بين يديّ، أتلمسّ خشونتهما المقدّسة..أسأل خطوطهما المتعرّجة أيّ خلق جديد كان يشغلهما، أيّ جنون كان يسرقهما مني...
تجيبني شفتاك شعراً، تماماً كما كانتا تفعلان...لا كلمات عادية تليق بشفتيك، لا لغات بشرية كانت ترضيك..وحده الشعر لغة الأنبياء ينساب شلالات رقيقة فوق روحي فيغسلها من خطاياها ويمشّط جناحيها لتطير أعلى فأعلى...وحده الشعر كنت تريقه من فمك خمراً فأشرب وأتذّوق دماء الآلهة فأتبرّر ويتبرّر خيالي الآثم...
زجاجات الفودكا الفارغة المصطفة خلف نافذة المحترف الزجاجية لا زالت تثير فيّ رغبة عارمة بالضحك، تقف شامخة صامدة باستفزاز لهؤلاء الذين لا يجيدون الفرح ولا يجيدون الحياة، ولا ترى على ألسنتهم سوى ناراً تأكلها وعلى رؤوسهم سوى لفافات من الملل والملل والملل...
إناثك العاريات المتمددات باسترخاء في أنحاء المكان، العابثات بكرات صوف الحياة، العازفات على أوتار عودك ألحان فيروزية ودندنات تكسر ظهر الروتين اليوميّ، وتيقظ الصخب في إيقاع القلب البطيء المنتظم...إناثك اللواتي أعرفهن بأسمائهن، وأغار من كلّ واحدة فيهن غيرة الأنثى للأنثى، غيرة اللحم للحجر والخشب، غيرة الروح للنار، وغيرة البشر للآلهة..لا زلن يثرن فييّ ذات الغيرة! ولا زلن يردّدن اقتباسك المفضّل "كلّ ما لا يؤنّث لا يعوّل عليه"..كلّ يوم أؤمن أكثر أنّك محق وأنّ كلّ ما لا يؤنّث _حقّاً_ لا يعوّل عليه...

أقرأ على إحدى صنائعك التي أهديتني:
"حينما أشيخ..ستزدادين جمالاً..وسأظلّ أحبّك.."
أقرأ:
"نحلة بيضاء سكرى بالعسل..أنت تدندنين في روحي.."
أقرأ:
"لم يكن كافيّاً ما تفتّح من شجر اللوز..فابتسمي يزهر اللوز أكثر بين فراشات غمّازتين.."

أقرأ، وأصّلي أن لا تفرغ كأس قلبك من الكلمات، أن لا يصمت الشعر في روحك، أن تبقى صوت صارخ بالبريّة ينادي ألا أيّها البشر إن لم يكن الحبّ دينكم فلا دين لكم إذاً، وإن لم يكن الحبّ إلهكم فلا ربّ لكم إذاً، وإن لم يكن الحبّ سلاحكم فلا حرية لكم إذاً...
لا تزال هنا حقّاً،  روحك لم تستطع أن تغادر مكانها، وليست بشوق للقاء ربّ ما أو بقلق من عذاب أبديّ أو في لهفة لحياة أبديّة في جنّة ما لا تتفوق على قدرات خيالك خيالاً...
حرّاً كنت في حياتك، وحرّاً تبقى...بلا أوهام تقيّدك، أو قواعد تملي عليك كيف تحيا ساعاتك على الأرض وتكسر أجنحة إبداعك..القواعد تلك لم توضع لك، والأوهام لم تنزل لأجلك..وضعت لنا نحن الفانين الضائعين القليلي الإيمان، الذي يحتاجون لكتاب تعليمات كي يركبّوا قطع حياتهم، ولا يعيثوا الخراب في تكوين الطبيعة...

محاطة بأعمال يديك كنت دوماً، محاطة بأعمال يديك لا أزال، وأعلم بطريقة ما أنّك ستبقى حولي دائماً، فخوراً بي كأب بابنته، فرحاً بي كحبيب بحبيبته...
فاعلم أننّي أبعث لك سلامي مع الريح والمطر وأننّي أهمس لكلّ صفصافة تلاقيك في دربها أن تقبّلك في عينيك، وأوصي الزيزفون أن يمسح على رأسك بأوراقه، وأشجار التوت والزيتون والكينا، وكلّ خشب يثير العشق في أناملك...
وتعال زرني دائماً في كلّ صباح بابتسامتك العريضة، وشعرك الرماديّ، وعودك، وشعرك، وقهوتك، وعصير الجريب فروت، وتبغك، ويديك المباركتين...

توما
22-1-2011 

هناك تعليق واحد: