الأربعاء، 26 يناير 2011

انتظار...



جالساً كمن لا ينتظر شيئاً، أو كمن ينتظر كلّ شيء إلا الذي يحدث له، يحادث الغبار المتراكم على سطح الطاولة أمامه، ويؤنس وحدته بملاعبة قطة شاردة تتجاهل محاولاته المثابرة على اجتذابها...
يأتي كل يوم لبضع ساعات بعد الظهيرة وأحياناً في الصباح، يجلس في نفس الزاوية التي يسبقه إليها أحياناً زوار آخرون لا يفهمون عمق ارتباطه العاطفيّ بتلك الزاوية بالذات ولا يرون ما يراه من سبب لتمييزها عن الزوايا الأخريات، فيمتعض ويجرّ رجليه وراءه في أنحاء الحديقة المحيطة بالمكان، حتى تنتهي عاهرته المقدّسة من خيانتها العلنية مع أيّ عابر طريق يدفع بدل ثمن كرامته ووقتها هي التي بلا كرامة، طالما أنّه لا يمتلك أن يحتفظ بها لنفسه تماماً، ولا يتحمّل في ذات الوقت هجرها إلى الأبد...

لم يكن يعلم اليوم ولا الساعة التي سوف تأتي فيهما، لكنّه واثق أنها يوم تأتي سوف يكون هناك، جالساً في زاويتهما بانتظارها...

*****************************************************************

قبل عامين وسبعة أشهر وإحدى عشر يوماً بالضبط، جاءت لتقول له وداعاً فقط في هذا المكان، في هذه الزاوية، على هذه الطاولة، ولا بد أن شيئاً من الغبار الذي كان وقتها مقيماً على سطحها، لا زال مقيماً هنا تحت أكوام من أجيال غبار جديدة، ولا زال يذكر تفاصيل حديثهما، وتعابير وجهيهما، وصوت الصراخ المكبوت داخله للحفاظ على أناقة الجلسة ووقار المكان، ثم صوت الريح يعصف إثر رحيلها، يوقع كرسيها الفارغ، ويكسر نوافذ قلبه شظية شظية...

يذكر..جاءت بهيئة لا تشبهها، لكنّه استطاع تمييز عطرها حتى قبل دخولها، فالتفت رأسه باتجاهها دون أن يبدي علامات تفاجؤ أو يواجه صعوبة في التعرّف إليها...كانت ترتدي جلباباً أزرقاً فاتح اللون وتغطي شعرها بشال أبيض يلفّ رقبتها الطويلة ويخفي ما مرّت عليه يوماً شفاهه وجهاً لوجه...
لم تمدّ ذراعيها لتعانقه كما تفعل دائماً، لم تنحني لتهمس لخدّه بقبلة تحكي عن شوقها، لم تعبث بشعره، أو تمرّ بيدها على لحيته الخفيفة مداعبة...
كغريبة جلست وطأطأت رأسها كطفلة صغيرة تخبىء عينيها اللتين لا تجيدان الكذب، وتفضحان جرمها الكبير أو الصغير في خيانة علنية لنفسها!

تجاهل كلّ شيء، وبدأ حديثاً عادياً مملاً عن كيف حالها، وكيف حال أهلها، وحال كلّ الذين لا يهمّه أمرهم، وعن أحوال عملها ودروس اللغة الإسبانية التي لا يفهم حتى الآن سبب انتسابها لها!
إجابات مختصرة لا تفلح في تحطيم الجليد الذي كان تنمو مخالبه على أطراف أنامله، ولا تطفىء ألسنة اللهب التي تأكل قلبه قطعة قطعة...
كأس ليمون لها، وفنجان قهوة سادة له، وسيجاراتان إحداهما لم تشتعل...
بطيئاً، بارداً، صامتاً رغم كلّ الكلمات، خانقاً رغم الريح، مرّ الوقت...



خيطا دموع من طرفيّ عينيها كانا كلّ ما يلزم ليشفعا لها، لكنهما لم ينهمرا...
كان عليها أن تذهب، أو هكذا قالت له في الوقت الذي كان هو فيه منشغلاً بلملمة أشلاء الذكريات التي راحت ضحية مجزرة جماعية في بضع لحظات من القصف المستمر على كوكب خارج المجموعة الشمسية كان يسكنه شخصان هاربان من الكرة الأرضية، وقوانين الجاذبية، وكلّ الآلهة والأصنام، والحقائق والمسلّمات....
على الطاولة الحجرية، تركت له بطاقة دعوة لحفل زفاف، دعوة لسيّد محترم يشبه اسمه اسمه تماماً في كلّ الحروف، صديق العروسين العزيز، للحظة تساءل من يكون ذلك الغريب المدعو إلى عرسها هي؟!
بطاقة دعوة لحفل فرح لا يعنيه كان كلّ ما تبقّى له، تذكرة مجانية للعودة للواقع، حكم بالإعدام لخياله المتطرّف، وفرصة جديدة ليبدأ من نقطته المفضّلة، نقطة الصّفر...



تفاصيل لقائهما الأول، ليست بذات أهمية، فلم يكن أكثر من لقاء عابر يخلو من دراما المسلسلات التلفزيونية، وخيال الأفلام الهوليوودية الجامح...تفاصيل قصتهما لا تتفوق على تفاصيل أيّ قصة حبّ أخرى في التشويق والإثارة والملل أحياناً أيضاً، الأمر فقط أنّ الحبّ بالتحديد ربما يكون الموضوع الأكثر استفزازاً للعواطف البشرية والمادة الكيميائية الأكثر عبثاً بالنواقل العصبية، رغم قدمه وتكرار سيناريوهاته، وفشله الأبديّ في تقديم مبررّات منطقية لوجوده...لكنّه ربما ولهذا السبب بالذات، ينجح في كلّ مرة بإيقاظ الفضول الكامن داخل كلّ منّا كغول أسطوريّ، وفتح شهيّتنا للحياة، الحياة كما نشتهي أن نحياها!


كان كلّ ما في الأمر، أن جوازيّ سفرهما، أنّ هويتيهما الشخصيتين، لا يمكن أن تنجحا في إيجاد أرض مشتركة، تمنح المشروعية القانونية لما يجمعهما...فهناك ما يتعدّى الحبّ هنا، وما يفوق قدراته العقلية الطفولية على استيعابه، لكنّه يوماً ما سيكبر ويفهم، هكذا يقول القدر في إحدى كتبه التي سقطت عن غيمة عابرة على رأسنا جميعاً!

كان كلّ ما في الأمر، أنّه ورث الانتماءات السياسية والدينية الخاطئة، أو ربما هي ورثت الانتماءات السياسية والدينية الخاطئة لأناس هم أنفسهم لم يختاروا انتماءاتهم، وأنّ انتماءاته وانتماءاتها المثبتين في كلّ الأوراق الرسمية، والغير قابلة للتجاهل، والتي يمكن أن تلتقي على فنجان قهوة لتشفع لجريمة قتل، أو تجد تسوية عادلة لحادثة نهب أو اعتداء، لا يمكن لها تحت أيّ شعار أن تلتقي لتبرّر "جريمة" حبّ بطريقة قانونية أو شرعية ما ترضي السماء العادلة الرحيمة الأكثر حكمة من البلاهة البشرية الفانية...

كلّ ما في الأمر أنّه حين أحبّها، أحبّها كما هي، دون حكم على طريقة تفكيرها، أو معتقداتها، أو طريقة لباسها، أو الخرافات التي تؤمن بها، أو الحقائق التي تعلن استسخافها لها، أو النظريات التي اخترعتها وتلك التي جادلته فيها وهزمته أو هزمها... وأنّها لمّا أحبّته، أحبّته كما هو، دون حكم على جنونه، على إيمانه في أحيان وإلحاده في أحيان أخرى، دون اهتمام بنظرات الآخرين المفغورة، ولا اتهاماتهم..أحبّته بلحمه الغريب عن لحمها، بدمه الغريب عن دمها، بروحه التي نمت في هيكل آخر غير الهيكل الذي تربّت فيه روحها، لتلتقيا في النهاية على أرض خارج الهياكل، أحبتّه حتى بصليبه الصّغير الذي يعلّقه حول عنقه منذ الطفولة البعيدة، والذي لا يعنيها أيّ شيء يمثّله ما دام يحميه من الأذى والعيون الحاسدة...


لكنّ الأمر هو أنّ أحدهما في النهاية كان عليه أن يفقد شجاعته، كان عليه أن يعترف بسلطة المنطق، ويمدّ عنقه للمقصلة ليقدّم رأسه قرباناً عنهما...
وكان هذا فقط كلّ ما حصل...


لا زال جالساً، يعدّ الساعات، ويغتال الأيام يوماً وراء يوم في روزنامته، في نفس المكان، في نفس الزاوية، عند نفس الطاولة، ينتظر أن تأتي، ربما حاملة طفلها الذي يحمل اسمه، كونه صديق العروسين العزيز، أو طفلتها التي تلهو بسنسال من ذهب ينتهي بصليب صغير معلّق حول عنقها، كان قد أهداه لها غريب مسح على شعرها، وقبّلها على خدها، ثم ضمّها إلى صدره كأنها ابنته الضائعة، لتحمله تميمة تحميها من الأذى ومن العيون الحاسدة...

توما
26-1-2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق