في الوقت الذي كانت فيه تونس تنتفض، وتغسل دماء أبنائها البسلاء شوارعها من أكوام الذلّ والقهر، ويسقط على إسفلتها ذهب الصمت شظايا تتناثر لتشوّه وجه العالم القبيح بينما يشرق وجهها أكثر ويزداد ألقاً وهيبة ووقاراً وقداسة، كنّا هنا نعيش تفاصيل حياتنا المملّة العادية جدّاً بكلّ تفان كأنّ شيئاً لا يحدث، كأنّ شيئاً لا يعنينا ما دام خارج محيط دائرة الراحة والاسترخاء التي تغلّفنا...
في الوقت الذي كانت تونس فيه تخلق من جديد، وتصنع أسطورة لا مثيل لها في تاريخ الوطن العربيّ الكبير، أسطورة لم يجرؤ كثيرون على الحلم بها حتى في أظلم زاوية في خيالهم حيث لن يصل طاغ أو يبحث شرطيّ، كنّا نحتفل بفوز فريقنا الوطني بمباراة كرة قدم مع شقيقة أخرى، ونملأ السماء صراخاً وهتافاً ونقلق ترتيب النجوم ونقيم الدنيا ونقعدها، فقط لأجل هدف واحد في مرمى لا يعنينا ولا يغيّر شيئاً من مستوى المعيشة المتدّني، ولا يقلّل من فقر الفقراء، ولا يضع سقوفاً لا تسرّب المطر فوق بيوت الزينكو، ولا يدخل الدفء على البيوت التي لا تملك ثمن الكاز لتشعل المدفأة ولم يتسنّى لها مساحة للحلم بمدفأة كهربائية، ولا يوفّر ثمن العلاج لأب مقهور لم تتوافق مؤهلاته مع أيّ نوع من التأمينات الصّحية المتوفّرة فوقف عاجزاً أمام مرض طفلته الصغيرة، ولا يلبّي حاجات المستشفيات الحكومية لأدوية أساسية غير متوفّرة بشكل دائم لسبب ما رغم أنّ التقارير الرسمية تؤكد توفرّها طوال الوقت، ولا يؤمّن لطالب فقير مقعداً جامعياً محجوز أصلاً لابن عشيرة ما أو فتى أبله مناه الله بمكرمة ما منذ الصّغر، ولا يمحو الجدار الذي ننكر رؤيته بين عمان الغربية والشرقية، وعمان والمحافظات الأخرى، والجنوب والشمال...
في الوقت الذي كانت تونس فيه تصرخ وتحتج بصوتها وجسدها وحواسها كلّها، بغريزتها وعفويتها، بدموعها وعرقها ودمها، بقلبها وعقلها وروحها، كنّا نتمددّ على أرائكنا، نتمطّى بنعاس وكسل، نتابع فيلماً أجنبياً على "إم بي سي تو" أو "أربز جوت تالانت" (الذي يثبت بشكل فاضح أن موهبتنا الوحيدة كعرب هي قدرتنا الفاشلة على تقليد كلّ تفاهة يخترعها الغرب، وأنّنا لسنا سوى طفيليات زائدة على العالم، لا تغيّر شيئاً في مجرى التاريخ ولا تاريخ المستقبل!) على "إم بي سي فور" أو حلقة من حلقات "فريندز" تملاً أفواهنا بضحكات رنّانة، أو برنامجاً آخر من حاوية القاذورات التي تقدمها لنا القنوات الفضائية على مدار الساعة، وللأمانة فقد كنّا ندير القنوات في فترة الفاصل الدعائيّ لنقف على قناة إخبارية ما، ونسمع آخر الأخبار عمّا يجري في تونس الشقيقة التي تجمعنا بها رابطة قومية وثيقة وعرى أخوّة لا تنفصم!
نعم، تظاهر الآلاف منّا، بقصد أو عن غير قصد، بعشوائيتنا المعتادة، مطالبين بالحقّ الأبسط في كلّ مكان على هذه الأرض، مطالبين بالحقّ في حياة كريمة، رأيناهم على قنوات إخبارية فضائية غير قنواتنا المحلية التي لا تنفكّ تؤكد وتعيد وتزيد القصة الخيالية التي يعيش فيها شعب ما، بسلام وسعادة، في مكان ما، إلى الأبد تحت ظلّ راية حكومة عادلة تعمل ليلاً ونهاراً كي يغفو الشعب ببطون مملؤة وبال هادىء في فراش دافىء يشعّ بالحبّ والطمأنينة!
سمعنا صوت الشعب يعلو قليلاً، سمعنا الشعارات الغاضبة، والهتافات الحماسية، والمطالبات العادلة...لكنّني أخشى من سذاجتنا، من طيبة قلوب شعبنا المسكين الذي يغفر للقاتل دماء أبنائه التي سالت ظلماً على فنجان قهوة سادة، والذي يؤمن إيماناً أعمى بالنوايا الحسنة، ويصدّق على الفور ما تهمس له الحكومات في أذنه من كلام ناعم، ووعود تنسى كأي وجبة طعام عابرة!
حكومتنا التي لا تفتقد للدهاء والذكاء، وتتقن جيداً فنون الإقناع كلّها، وسحر الإخفاء، وتحفظ كلّ الطرق المؤدية إلى عقولنا المباشرة منها والمختصرة، وتمسك كلّ الخيوط التي تحرّك قلوبنا كدمية محشوة بالقطن، بدأت خطتّها الاستراتيجية بخفض الأسعار التي كانت قد عملت على رفعها مسبقاً دون أن تدرك أنّ المواطن لم يكن قادراً على مجاراة الأسعار الأصلية منذ البدء، وأنّ رفعها ثم خفضها مجدّداً لن يصلح الحال، ولن يجعل المواطنين أكثر ثراء أو أكثر ترفاً! بالطبع لم يكن قرار خفض الأسعار، نابعاً من خوف حقيقيّ على صحة المواطنين العقلية والنفسية والجسدية، ولم يكن نتيجة لضغط الإحساس المرهف للسادة النواب الذين انتخبهم الشعب ليكونوا لسانه لا ليقطعوه، بل كان نتيجة للخوف، الخوف فقط من احتمال متناه في الصّغر من أن يكون لثورة تونس أثر الفراشة في مجتمعنا، خافوا أن تعدينا تونس، ويا ليتها تعدينا شيئاً من شجاعتها، شيئاً من كرامة محمد البوعزيزي، شيئاً من إصرارها على الحياة!
أتساءل، في ضوء الأحداث الراهنة، متى ستنغرز إبرة المورفين القادمة في أوردة الشعب، ليعود لغفوته، لجوعه، وبرده، وانهزامه...ومتى ستتوقف إبر المورفين تلك من إفعال تأثيرها الخانق في جسدنا، فنستمر، لمرة واحدة، نستمر في محاولتنا لإحداث التغيير وإنتزاع حقوقنا البسيطة منها أولاً..متى سنعبّ هواء الحياة، نلتهمه، نضمّه، ونلعق ذراته بحريّة، بفرح، وبكرامة!
تونس، أعدتني اليوم تلميذة على مقاعد الدراسة، في صفوفها الإبتدائية الأولى، تحدّق في ورقة امتحان الاجتماعيات أو ما يسمى التربية الوطنية حالياً، وتعبّىء على الخريطة أمامها وطناً عربياً تلو الآخر، أيام كان الوطن العربيّ كلّه بكلّ أعضائه بذات الأهمية في قلوبنا وعقولنا، أيام كنّا حقّاً لا زلنا نؤمن بالوطن الواحد وبمفاهيم لم تعد موجودة في المناهج المدرسية الحديثة، كالقومية العربية، ووحدة التاريخ والمصير، أيام كنّا نحفظ نشيد "موطني" أكثر من كلمات السلام الملكيّ الذي كان بعضنا يستبدل بعضاً من كلماته بأخرى لها نفس الوزن، أيام كان شعر "حيدر محمود": (سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى، فإمّا حياة تسرّ الصديق وإمّا ممات يغيظ العدى..) وشعر محمود درويش: (سجّل أنا عربي.....سجّل برأس الصفحة الأولى: أنا لا أكره الناس ولا أسطو على أحد، ولكنّي..إذا ما جعت آكل لحم مغتصبي..حذار..حذار..من جوعي ومن غضبي..) هما الأكثر شعبية وتداولاً على الألسنة، أيام كنّا نملأ دفاتر الرسم بأعلام الأردن وفلسطين وسوريا والعراق ومصر ولبنان واليمن والمغرب وكلّ مهجة عربية تخفق في صدورنا، أيام لم يكن هناك قنوات فضائية ولا شبكات عنكبوتية وكانت أخبار فلسطين والعراق أكثر أهمية من الفيلم المصريّ الذي تبثّه قناة اسرائيلية يلتقطها "أنتين" التلفاز بطريقة ما! تونس، أعدتني تلك الفتاة الصغيرة التي تبحث عن الدائرة الأصغر في الجزء الإفريقيّ من الخريطة_ التي أثبتت اليوم أنّها الأكثر عناداً وجرأة وشجاعة_لتكتب الحروف الأربعة الأكثر أناقة والأقرب وقعاً على الأذن التي لم تنسى كيف طربت وذهلت لمّا سمعت صوت "صوفيا صادق" السماوي يغنّي كلمات الشاعر العراقيّ محمد مهدي الجواهري في قصيدة مديح لا يملك المرء سوى أن يعترف بجمالها وبحسن الوصف فيها وألق المعنى، والتي كانت قد كتبت في مديح المغفور له ابن الهواشم الحسين بن طلال مجازاة بالجميل جميلا...
تونس...يعيّشك...ردّ بالك على روحك....نحبّك برشا...
توما
15-1-2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق