كنت في الحادية أو الثانية عشرة من عمري على ما أظن، طفلة تدرك الصواب من الخطأ إلى حدّ ما، لكنّها لا تفكرّ كثيراً فيهما قبل أن يقع ما يقع نتيجة لأفعالها العفوية والعشوائية إلى حدّ كبير...
لا زلت أذكر نفسي أركض في ساحة المدرسة بالزيّ المدرسيّ المملّ بأناقته وألوانه الفقيرة بالألوان، القميص الأبيض الذي يفشل في الاحتفاظ ببياضه بعد أولّ يوم مدرسيّ، والبنطال الكحليّ القاتم العريض الساقين والمضحك بكلّ معايير الموضة!
كنت أعرف اسمها، رغم أنّها لم تكن تعلمنّي أيّاً من المواد في أيّ من السنوات الدراسية، فقد كانت تعلّم صفوف الذكور فقط، لكنّها رغم ذلك لم تنجو من تعليقات الفتيات المثيرة للحنق، والخالية من أيّ من المعايير الأدبية أو الأخلاقية أو الإنسانية بأيّ حال من الأحوال!
لسبب ما، فإن الجانب الحقير من شخصيّاتنا التي تكون لا تزال في طور التكوّن يكون ظاهراً بشكل ملفت في السنوات الأخيرة من طفولتنا والأولى من مراهقتنا...ولسبب ما فإننّا في تلك الفترة العمرية، نوظّف قدرتنا على إذلال الآخرين بل ومواهبنا اللافتة للنظر في ذلك المجال بشكل يثير القرف ومن دون وعي أو إدراك تام لنغطّي على فشلنا الاجتماعيّ في الإنتماء لجهة ما، لمجموعة ما، لمكان ما أو لأي شيء..ربما، لأننا نحاصر بذلك الشعور بأنه علينا أن ننتمي وأن نكون جزءاً من جماعة ما، لنكون مقبولين من الآخرين، وقادرين على التواصل وتبادل الأفكار والأحلام مع البيئة المحيطة بنا، وربما لحاجتنا الدائمة للشعور بالحبّ المنبثق من خارجنا ولو كان حبّاً سطحيّاً بلا أبعاد ولا عمق!
كان اسمها...ليس مهمّاً اسمها، لكننّي لن أنساه ما حييت...ولن أنسى المادة التي كانت تدرّسها، والتي كانت إحدى المواد التي أتقنها إلى حدّ كبير وأتميّز فيها فطرياً، دون حاجة لساعات دراسة طويلة أو مساعدة خارجية من أحد...
لم يكن عيبها اسمها، ولا المادة التي كانت تدرّسها أو طريقتها في التدريس..كان العيب هو عيبنا، نحن الذين نبحث عن عيوب في الآخرين كي نصطادهم بها، ونبحث دوماً عن العيوب الأسهل والأكثر بروزاً وظهوراً للعين المجردّة، إثباتاً لفشلنا في الغوص أعمق، وكسلنا اللامتناهي للبحث حيث لا يبحث الجميع أملاً في العثور على كنز أغلى ثمناً وأكثر إبهاراً وفائدة ربما...
المهم، أنّ ما حدث في ذلك الوقت ورافقني بقية عمري، كان حدثاً عابراً يتكررّ في كلّ مكان وكلّ زمان، وكلّ ساحة مدرسية، وكلّ صفّ مدرسيّ، لكن ما لم يكن متوقعّاً أن أكون أنا الفتاة المثالية المهذّبة جدّاً والتي يضرب بها المثل جزءاً من الحدث، أو بالأحرى الشخصية الأساسية في الحدث!
كنت أركض عبر ساحة المدرسة متوجهة إلى حيث ينتظرني أهلي للمغادرة للبيت، ركبت السيّارة، وألقيت بحقيبتي على الأرض، في اللحظة التي مرّت بها هي بجانب السيّارة، وانطلق لساني الخالي تماماً من أي خليّة عصبية أو قدرة على التفكير العقلاني أو التفكير بأيّ شكل من أشكاله، يردّد متواطئاً مع أحبالي الصوتية بأعلى درجة من الوقاحة الألقاب التي لا تخلو من الوزن والقافية والتي كانت تترددّ على ألسنة الآخرين من طالبات وطلاب في المدرسة للتعليق عليها هي بالذات، ولأننّي منذ الصّغر محظوظة بتواطىء القدر على أولاً كشف خطاياي على العلن بأقصى سرعة ممكنة، وثانياً عقابي الأبديّ عليها بآلام ضميرية مزمنة، وثالثاً على مساعدتي لإدراك وفهم مدى أذاها وعمق وقعها التدميريّ، وفي ذات الوقت مضاعفة شعوري بالخجل منها ومن من نفسي مرّات ومرّات إن حدث وأعدت الخطأ ذاته مرتيّن _وتلك عادة أخرى ليس لها موقع في هذا النصّ_فقد حدث ما لا أخشاه في كلّ مرة قبل أن أرتكب جرائمي الصغيرة أو الكبيرة، وسمعت بملء صيوان أذنها اليسرى كلّ ما تفوّه به لساني بكلّ عنفوان وشجاعة نادرتين!
لليوم، لا أنسى ردّة فعلها، أذكر تماماً وجهها الغاضب، أكاد ألمس وهجه الأحمر، حركات شفتيها رغم عدم قدرتي على سماع صوتها، والكلمات_كلماتها_التي ألقت باللوم على أهلي المساكين الذين لم يجيدوا تربيتي، ليتها ألقت يومها باللوم عليّ، لكان عاري أقلّ، وذنبي أصغر، فأهلي الذين بذلوا أقصى جهدهم ومعرفتهم وخبرتهم لتربيتي لم يكن لهم أيّ ذنب في ما صنعت لا من قريب ولا من بعيد، لكنّ القدر شاء أن أعاقب مرتيّن مرّة من أجل الأذى النفسيّ الذي سببّته لها ومرة من أجل العار الذي جلبته لأبي وأمي!
أذكر نفسي، أغوص في مقعد السيارة أعمق وأعمق، أحاول أن أختفي بطريقة ما كفقاعة من ماء وصابون تنفقأ دون أن ينتبه لها أحد أو يتحسّر عليها أحد، لكنّني بدلاً من ذلك أزداد ثقلاً، أزداد وجوداً، واختناقاً بنفسي!
وجه أمّي يحاول أن يخفي خيبته، ويواسي خيبتي بنفسي رغم كلّ شيء..ثم يحاول إقناعي بالذهاب للإعتذار في اليوم التالي، دون أن ينجح في إقناعي أن الإعتذار سيصلح شيئاً، أو يمحو الحدث الثقيل البشع من تاريخ حياتي الذي على بساطته وقلة أهميته يبقى جزءاً من تاريخ الإنسانية جمعاء!
وأختار عدم محو خطيئتي، وتتوّلى أمي الإعتذار عن "الهفوة الصبيانية الصغيرة" التي ارتكبتها طفلتها غير الناضجة، وتتقبلّ المعلّمة الإعتذار بكلّ نضوج، وأعيش أنا مع ألم جديد في عظام ضميري، يزداد شدة مع التغيّرات الجوّية والهرمونية في جسدي، ويعلو صوت أنينه في الليل لمّا تصمت الدّنيا حولي، فأرفع رأسي نحو السماء وأصّلي أن يزيح الربّ عنّي هذا الثقل، أن يعود بي الزمن ويقفز عن تلك الدقائق القليلة التي تؤرقنّي، أن أمنح فرصة لأتبرّر وأصلح ما هدمت في نفس بشريّة أخرى...
وحتى يأتي ذلك الوقت، وتأتي تلك الفرصة، كنت أهرب من أيّ صدفة قد تجمعني بما يعيد الذكريات لي...
ومرّت سنوات عديدة، عقد كامل أو أكثر قليلاً...
كان يوم أحد، صباح ربيعيّ يحمل بضع نسمات باردة تيقظ الروح من بلادتها، وعلى غير العادة كنت أرافق أمي إلى قدّاس الأحد..وحتى بعد عقد كامل من الزمن كان لا يزال بوسعي أن أميّز رأسها من بين كلّ الرؤوس البشريّة الأخرى، حتى من الخلف!
كانت تجلس تماماً أمامي، وكان عليّ أن أخوض الصراع كلّه طازجاً جديداً مرة أخرى...
لم يكن الكاهن بحاجة لأن يردّد الآية التي تقول :"فإن قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أنّ لأخيك شيئاً عليك، فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك وحينئذ تعال وقدّم قربانك" (متى 5)، كي أعلم أن تلك كانت فرصة خلاصي الأخيرة، ولم أكن بحاجة لمواجهة أكثر أو أقلّ أسطورية مع خوفي وجهاً لوجه كي أنجو!
لم أسمع كلمة واحدة من الصلوات أو الترانيم ذاك اليوم، لم أسمع سوى صوت نحيب تلك الفتاة ذات الثانية عشرة يهرب من تحت وسادتها التي دفنت رأسها تحتها، يعلو ويعلو ويعلو، ولم أذق شيئاً من الخبز والخمر اللذين يتحوّلان بطريقة عجائبية إلى جسد ودم في أفواه المؤمنين، لم أذق سوى ملح الدموع التي انحبست طويلاً وآن وقت انهمارها حتى آخر دمعة...
"سلام المسيح معكم، اذهبوا بسلام.." قالها الكاهن وهو يرسم إشارة الصّليب في الهواء، وينفث البخّور في جميع الجهات..فانسحبت من مكانها، وانسحبت وراءها..وقبل أن تخرج من باب الكنيسة الخارجيّ، وجدت يدي تربّت على كتفها..التفتت إليّ، وتجوّلت عيناها في ملامح وجهي، لكنها لم تعرفني، وبعد برهة من الصّمت بدت أطول مما هي عليه حقّاً، قلت لها اسمي، ثم بكثير من الخجل والارتباك والخوف والتردّد الذي تملكه أيّ طفلة في الثانية عشرة، اعتذرت لها على خطيّة ارتكبتها بحقّها دون أن أعيد لذكرياتها ألم التفاصيل..بحثت في عينيّ عن جواب لفضولها، فرأت انكساري، ولم تسأل أكثر...بكرم سامحتني على ما أجهل إن كانت قد أدركت أو تذّكرت ما هو، وأطلقت سراح تلك الطفلة من سجنها القذر المظلم الذي اختارته لنفسها طوعاً طوال تلك السنوات..
بضع عبارات أخرى، وتساؤلات عابرة، ومضينا كلّ في طريق، بروحين أكثر خفّة ورحابة...
أذكر هذا كلّه الآن، بعد سنوات عدّة، لسبب محدّد، أو بالأحرى، لخطيئة جديدة ارتكبتها ويوشك القدر الوفيّ على فضحها مرة أخرى أمام العلن، مع الاحتفاظ برأفة غير معهودة هذه المرة، بمنحي وسيلة أو وسيلتين للهرب من الفضيحة المرتقبة...
ورغم أن باب الهرب المفتوح يبدو مغرياً جداً لي في الوقت الحالي، وفرصة لا تعوّض للحفاظ على الصيت الذهبيّ والسمعة التي لا تشوبها ذرة غبار ويضرب بها المثل كما كان طوال سنيّ حياتي، لكنّ الفتاة ذات الثانية عشرة التي كنتها يوماً تقف بشجاعة أمام الباب، تسدّه بجسدها، وبروح رياضية عالية تقرّر عنّي وعنها أنّنا سنواجه خطيئتي معاً، وسنحتفظ رغم كلّ شيء بكرامتنا ووقارنا ونحن ندفع الثمن الذي سيختاره لنا القدر، وسنتقبلّ عقابنا بكلّ رحابة صدر...الفتاة ذات الثانية عشرة، تقرّر بكلّ نضوج، انّنا لن نهرب مرة أخرى، ورغم إدراكها التام أنّ هذه الخطيئة لن تكون آخر الخطايا في مستقبلنا المشترك، إلا أنّها تصّر أنّنا سنقف بكلّ فخر جنباً إلى جنب، ونحن نعترف بها كلّها خطيّة وراء خطيّة، ونخوضها سوية، معركة وراء معركة، نحو الحرية، والحياة بلا آلام مزمنة!
توما
6-2-2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق