الخميس، 17 فبراير 2011

...تواصل...




غارقون في نقاش محتدم عن حالة مريض ما، يراجعون سيرته المرضية الطويلة، يتباحثون في الأخطاء والعثرات التي حدثت في سير علاجه "لسوء حظّ المريض"، يحاولون رسم مستقبل ما له غير متأكدين من إمكانية إيصال المريض هناك، يضعون احتمالات متعددة، ويحسبون مدى احتمالية الاحتمالات، ويقفز كلّ منهم مدافعاً عن نظريته، أو مهاجماً فقط لنظرية أخرى... ويستمر النقاش طويلاً، ويزداد احتداماً، ترتفع أصابع لوم عديدة متوجهة هنا وهناك، ينخفض عدد منها بعد أنّ يشار إلى عثراتها المشابهة، ثم تلتقي الأصابع على هدف واحد هو كيفية الخروج من تلك الورطة التي سقطوا فيها مع المريض...

المريض الذي لم يحضر النقاش، ولم يقدّم نظريته هو أيضاً، أو رأيه فيما حدث، ولا أحد يعرف شيئاً عن المستقبل الذي رسمه هو بنفسه لنفسه، كان يرقد على سرير ما في العناية الحثيثة منذ عدة أسابيع كما قيل في العرض التفصيليّ عن حالته، وقد كان ذو جنسية آسيوية ما، غريباً في بلد غريب، لا يجيد لغتها، ولا يجيد أيّ لغة أخرى يجيدها أيّ من المشرفين على علاجه مما ألمّ به...

كان العرض التفصيليّ للحالة، والنقاش العلميّ المثير للجدل وللفضول بعده، والاستنتاجات التي تمخضّت عن اللقاء العلميّ البحت كلّها حدثاً ممتعاً حقّاً، وجريئاً إلى حدّ ما في مجتمع اعتاد التسّتر على أخطائه في مختلف المجالات الطبيّة وغير الطبيّة، إلى آن ارتفعت يد ما بسؤال ما وحوّلت الحدث الممتع حقّاً والجريء إلى حدّ ما إلى مخيّب للأمل فقط...

كان السؤال بسيطاً للغاية، لكنّه كان متعلّقاً بالمريض نفسه، لا بحالته المرضية...

فضول مشروع عن الطريقة التي كان يتمّ بها التواصل مع المريض الغريب الجنسية والغريب اللغة والذي يمكث منذ أسابيع عدة مقيّداً إلى سرير ليس سريره، في مكان ليس بيته، وسط أناس ليسوا أقرباءه ولا أصدقاءه، يخوض رحلة تعاف صعبة بعد عملية جراحية طارئة، في الأجواء المخيفة الموحية دوماً بالخطر وبالموت لقاعة العناية الحثيثة، حيث يمرّ على سريره كلّ بضع ساعات أشخاص بأرديتهم البيضاء أو الزرقاء، يعبثون بالأنابيب التي دسّوها في كلّ فتحة وجدوها في جسده، في أنفه، وعبر جراح في بطنه، وحتى عبر قضيبه في اختراق سافر لخصوصية وراحة جسده، ويبدون اهتماماً كبيراً بلون وكمية ورائحة ما تخرجه هذه الأنابيب من عصارات معوية وبول وقيح وغيرها، يفوق اهتمامهم بأسئلته عن "كم الساعة الآن؟" و"ما المرض الذي أعاني منه؟"و"هل لي بشربة ماء؟"و"ما المدة التي سأقضيها هنا؟" أو تعبيراته مثل "أشعر بألم حادّ هنا"و"أنا جائع جدّاً!"و"أريد أن أذهب إلى الحمّام" أو "أريد العودة إلى وطني..." والتي لا يبدو أنهم يفهمون أيّاً منها على كلّ حال رغم محاولاته تفسيرها مستخدماً لغة التواصل البدائية الأكثر حميمية، لغة الجسد ...

التفتت الأعناق إلى الوراء واتجهت العيون إلى حيث أتى الصوت الغير علميّ إطلاقاً، عيون مندهشة لسبب ما تحمل إجابة وحيدة..التواصل مفردة موجودة بين دفتيّ قواميس اللغة وحتى هذه الساعة لم يستعملها أحد منهم في جملة مفيدة!


توما
18-2-2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق