"صوّرتيني؟صوّرتيني؟فرجيني الصورة!" تلحّ
المرأة العجوز عليّ.
أهزّ رأسي بالإيجاب، وأقرّب الكاميرا منها كي ترى
الصورة.
تحدّق في الكاميرا، تدور عيناها في كلّ الاتجاهات كأنها
تبحث عن شيء ما.
ينحني رأسها، يتحول إلى علامة استفهام كبيرة.
ثم تدفع الكاميرا بعيداً عنها، وتنظر نحوي،
"إنتي كذابة، كذابة إنتي، ما صوّرتيني، ما صوّرتيني!"
تتضاعف تجعيدات وجهها، وتسيل دموعها على وجنتيها في
أنفاق حفرها الزمان بعناية على خدّيها، تمدّ يدها إلى جانب السرير، وتشير إلى صورة
داخل إطار.
أمدّ يدي، أحمل الإطار الخشبيّ الأنيق، وأتأمل الصبيّة
الحسناء التي يلّف خصرها النحيف شاب جميل المحيا، أمرّ بعيني على شعرها الأسود
الطويل المنهمر على كتفيها، على خطّ الكحل الغامق حول عينيها، على الأهداب المرتبة
الطويلة الفاتنة، على الفستان القصير الذي يتماهى مع تضاريس جسدها، على السيقان
البيضاء الرفيعة، والكعب العالي الأنيق، وأكاد أسمع صوت موسيقى يونانيّة تخرج من
أبيض وأسود الصورة العتيقة!
"ماشاءالله كنت كتير حلوة وإنتي صغيرة،" أقول.
لكنني سرعان ما أستدرك "بس هلأ طبعاً أحلى!"
أعيد الصورة إلى مكانها، تصيح العجوز بي: "زيحيها،
زيحيها هاي كمان، أنا مو هاي!"
لا أفهم، لكنني أبعد الصورة من جانبها وأقلبها على
وجهها.
تشير لي العجوز مجدّداً: "يلا ما بدك تصوّريني؟"
وتطلق ضحكة عالية،
"بس هلأ صورّيني عنجد، لا تضحكي عليّ مثل المرة
إللي قبلها!" وتهزّ سبّابتها محذّرة.
أبتلع ريقي من الفزع، أحمل الكاميرا بيدي المرتبكتين،
وأضغط الزر مرة تلو الأخرى، تلو الأخرى، تلو الأخرى...
وفي كلّ مرة، أقول للعجوز:
"لأ هاي ما طلعت حلوة، خلينا نعيدها.."
أو،
"مغمضة، فتحيلي عينيكي منيح وأعطيني ابتسامة
يلا!"
أو،
"الشمس طالعة بنص عينك، خليني أسكر الستارة
أول.."
حتى فرغت بطارية الكاميرا وانطفأت، فاعتذرت منها،
وتملّصت من الورطة بوعد كاذب بالعودة غداً لجلسة تصوير جديدة وعدتني أنها ستتبرج
من أجلها، وتضع حول عنقها عقدها اللؤلؤي الذي جلبه لها زوجها في ذكرى زواجهما
الأسبوع الماضي من باريس.
كان زوجها قد توفي قبل عشر سنوات على الأقل، لكنه رغم
ذلك لم يخلف موعده يوماً، وكان يأتي ليزورها كل مساء ويبقى طوال الليل إلى جانبها
لأنها كانت تخشى النوم وحدها في السرير.
أعود إلى البيت، أرمي نفسي على السرير، أمرّر أصابعي على
وجهي واحداً واحداً، أقول لها، "احفظيه، احفظيه!"
"أريد عشر نسخ منه، عشر نسخ على الأقل كي لا تضيع
ملامح النسخة الأصلية..ما أقسى أن تفقد الذاكرة وجهها...".
توما
24-11-2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق