السبت، 26 نوفمبر 2011

...مشاهدات 3...



-1-
كان ينقصه الكثير...
ساقان مبتورتان، وعينان لا تريان إلا شاشة مظلمة!
يجلس على سريره رافعاً إحدى يديه إلى الأعلى، ثمة ألم ينبض في إصبع يده الصغير، يسيل قيحاً من تقرح ملتهب، لا يذكر هو كيف بدأ، ولا يراه.
اليد الأخرى تحضن سيجارة بين السبابة والوسطى، يتصاعد منها الدخان حلقة حلقة، ساخراً من بؤس المشهد، وهازئاً من قدر لم يتمكن من ثني الرجل عن الاستمرار في التدخين وفي الحياة بشكل أو بآخر.
لا أطلب منه إطفاء سيجارته، بعد أن يأست من أمل استماعه لأيّ من التعليمات الطبيّة_ كيف تقنع رجلاً عاش طيلة عمره على هواه أن يعيش آخر عمره على هواك؟_ لكنّه كطالب ضبط متلبسّاً يكرّر عادته في الغشّ في الامتحانات، أطفأها على عجل، بعد أن أنبأته إحدى حواسه التي لا أراها بقدومي المفاجىء، وبادرني بالتحية بصوت جهوريّ يملأ المكان كلّه، ثم سألني عن حالي قبل أن أسأله عن حاله، وأجابني من بعدها عن حاله بأنه ب"ألف" خير لولا ذاك الألم النابض في إصبعه.
أمدّ يدي لأفكّ الضماد المربوط على يده، لبدء عملية التغيير اليومية على جرحه_أو كما يسميها هو عملية التعذيب القصيرة اليومية. يطلب مني الانتظار لثانية فقط، ثم ينادي طفلاً ظننته أول الأمر حفيده، ليتبين فيما بعد أنه أصغر أولاده. يمسك يد الصغير، ويضعها في فمه، ويعضّها بكلّ ما أوتيّ من قوة، ليحتمل الألم الذي يسري كرعشة كهرباء في كلّ يده كلمّا تمّ التغيير على جرحه، الذي لا تهدّىء أيّ من المسكنّات روعه!
أصاب بالرعب على يد الصغير، أتوقف عن متابعة فحص التقرّح، ويبتعد جسدي إلى الوراء بذهول.. الصبيّ لا يجفل، ليس ثمة تعبير من أيّ نوع على وجهه، ليس ثمة خيال خوف أو ألم!
يسحب يده من فم أبيه، ويقول لي:
"لا تخافي، ما عندو اسنان!"
أكنس ذهولي خارج الغرفة، أكمل ما بدأته، يشكرني الرجل_الذي ليس عنده شيء تقريباً_يشكرني بحرارة..ثم ينادي على ولده، ليشعل له سيجارة أخرى، ينفث فيها ألمه حلقة حلقة...
*******************************************

-2-
"أديش عمرك يمّا؟" أسألها.
تنظر إلى ابنتها الواقفة عند طرف السرير، وتستفسر منها:
"كديش عمري يمّا يا عالية؟ كوليلها للدكتورة..يعني يمكن فيي ستة وخمسين سنة..أنا انولدت والناس (بكت) مهاجرة..عاد إنتي إحسبيها!"
لا تتمالك شفتاي نفسيهما عن ابتسامة عريضة، ولا أخبرها بالحساب الصحيح لعمرها ولنكبتنا!
"طيّب يا حجّة، شو بوجعك؟ شو عندك أمراض؟"
"شو ما عندي" تقول، وتلوّح بيدها في وجهي،"سكري وعندي، ضغط وعندي، تسكير بالشريانات وعندي، إجرايي و ضهري بوجعني، (حيل) مافي، واليوم عملولي كسطرة، وحطولي شبكية، وهاي إجري شوفيها كيف صارت محل الكسطرة، حمرا زي الدم ومو كادرة أدعس عليها"
كانت تعدّد مصائبها كأنّها تعدّد انتصاراتها، أو شهاداتها التي تقيّم مدى كفاءتها في مدرسة الحياة.. وأنا على شفا الضحك، أحاول كبت نفسي باحتراف مهنيّ أعجز أحياناً عن الوصول إليه!
أسألها كم ولداً أنجبت، فتجيبني:
"ما بتصدكي لو بكولك" وتبتسم ابتسامة تغري بالسؤال مجدّداً.
"حملت عشرين مرة،" ثم تستدرك "تصعطاعش، تصعطاعش، أربعة منهم راحوا طرح، وضل منهم خمصتاعش، ثلاثة منهم ماتوا وهم صغار، الله يرحمهم، وضل عندي طناعش.."
لم يفت السيّدة حاجباي اللذين طارا فوق جبهتي،
"ماهوو يمّا شو بدّك تحكي، كان زمان جهل كثير، و(زلام كاسرة)، كلبها كاسي.." تطأطىء رأسها، ثم تكمل، "والله يمّا برّا البيت شو في ما كنّا نعرف..غير هالطبخ والجلي والشطف والمسح والغسيل..كنّا نغسل عإيدينا، بتفكرّي كان في زي هلأ! وهادي حياتنا..شو بدنا نكول، الحمدلله.."
أفحص فخذها المتورم من نزيف تحت الجلد، نزيف متوقف، أفعل ما يلزم لها، ثم أتمنّى لها الشفاء العاجل، وأحمل في قلبي دعواتها لي بالتوفيق وبغد أفضل لي، ولكلّ النساء بعدها...

ملاحظة: لا نزال نرى كلّ يوم نساء، أو فتيات لم يكتمل نضوجهن بعد، يستهلكن كماكينات للعمل والمتعة والإنجاب، سينتهي بهن الأمر ك"أم خالد" التي لا يناديها أحد ب"رفقة" إلا الكادر الطبيّ كلّما استدعى وضعها الصحيّ مراجعة المستشفى، فتلتفت حولها، ثم تردّ عليهم مصححة..
"أم خالد"،"أيوه أيوه يا دكتور أنا رفقة، أم خالد!"...

توما     
26-11-2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق