الأحد، 13 نوفمبر 2011

...في تاسعتها والعشرين...


تكبر الفتاة عاماً آخر..ولا تكبر طفولتها..
أساها ربما، وجرح يشّق  الروح إلى نصفين، يلمع البرق بينهما، ويزأر رعد كاسر...
لكنّها هي هي، تخترع فرحاً ما كلّ صباح، وتلّم الحصى على الطريق أملاً يملأ جيوبها!
تبحث عن شجرة كرز تتسلقها، لتختبئ بين غصونها من خيبة أخرى تترصدّها كولد متنمّر، وتلتهم الحبّات الحمراء الحلوة الحامضة حبّة حبّة حتى يهدأ روعها، وتشدّ قوس شجاعتها، ثم تفلته لتطير إلى حضن غيمة في الأفق، عابرة البياض، متشحّة بالزرقة، مسافرة إلى سماء أخرى..
لا زالت في سنتها التاسعة والعشرين من مرورها العبثيّ على كرة التراب المعجونة بالماء والدم، تلهو بكلّ شيء..بساعة حول معصمها الذي يخنقه الوقت، وتثقله الساعات المثقلة بدقائقها وثوانيها..
بقلادة حول عنقها الذي لا يوافقها أنّ ثمّة قلادة سوى زوابع الريح الصغيرة، تفهمه، وتجعله أجمل..
بخيط بين يديها تعقده أمنية أمنية، فينهرها أحدهم مدّعياً أنّ لعقد الخيوط فأل سيء،
فتستبدله بقطعة ورق تصبح زورقاً..أو ضفدعاً أحياناً!
لا زالت تعبث بكلّ ما تقع عليه حواسها..بعنكبوت تصادفه في الحديقة، بسرب نمل يتسللّ عبر نافذة المطبخ، بالراديو الذي تؤثره على كلّ ما جلبته التكنولوجيا لهذا العالم، بزينة معلّقة، بقطع "ليغو" مبعثرة على فراش صغيرة في مستشفى، تنتظر العودة لبيتها بجديلتين و"إسوارة زهرية" ربطوها حول ساعدها، بأكواب الشاي البلاستيكية الطرية التي ينتهي بها الأمر أشبه بأخطبوط متعدّد الأذرع، بتعليقة مفاتيح، بشعرها أو حبّ شباب يحلو له بين الحين والآخر أن ينبت على وجهها، بمزاج الآخرين حولها، بمزاجها، وديكور الأحداث المؤثثة لحياتها، بأيّ شيء بأيّ شيء..
ولا زالت، رغم تاسعتها والعشرين، لا تنجو من بقع القهوة على ملابسها، وتنسى مسح نقطة البنّ المتخثرة على طرف أنفها دائماً_بطريقة ما_ إلى أن تلفت انتباه أحد آخر وضحكه في آن معاً!
ولا تنجو كذلك من شباك حسّ متطرّف في سذاجته، أوقعها ألف مرة في حفر بعمق حسن ظنّها، وكسر أضلاعها واحداً تلو الآخر، ثم ربّت على ظهرها مواسياً، وابتسم ابتسامته المحتالة، فصالحته_صالحته كلّ مرة_سريعاً، لذنب يفتك بقلبها إن لم تصالحه هو المذنب الضائع الذي لا يتوب ولا يعود إلى رشده..   
وهي، في تاسعتها والعشرين، لا تزال توزّع التحيّة، وبالأخص تحيّة الصباح، قطع حلوى على الجميع، حتى على من لا تعرفهم، كأنّها_التحيّة_قادرة على فكّ شيفرة كلّ هذا التجهّم على وجه العالم معقود الحاجبين..كأنّها التحيّة قادرة على جلب السلام لقلوب تفتقده! وكم تضحكها ردود فعل هؤلاء الذين يغرقون في التساؤلات، عن تحيّة ملقاة في طريقهم، من غريبة، فيزدادون تجهمّاً أحياناً، ويفترضون أنّ التحيّة لم تكن تقصدهم، فيتلفتون يميناً ويساراً باحثين عن مقصود محتمل! وأحياناً، يتفاجئون، ولكثرة اندهاشهم، يتوقفون للحظة، ويفكرون إن كان ثمّة سبب حقيقيّ يمنع السلام من النفوذ إلى قلوبهم، وإن كان ثمّة سبب حقيقيّ يمنع ذاك الصباح من أن يكون "صباح خير"..وأحياناً، تصادف مجانين _مثلها_ لا يفكرّون كثيراً بسلام عابر وتحيّة روتينيّة لكنّها كالشمس، تشرق كلّ يوم دون أن تستنفذ طاقتها على العطاء، فيردّون_ببساطة_السلام، ويبتسمون، ويمضي كلّ في طريقه أخفّ مرارة، وأكثر دفئاً!
في تاسعتها والعشرين، لا تنتظر الفتاة شيئاً كثيراً، وتتمنّى لو أنّ بعض من تذّكر بعث مودّته وأمنياته الضرورية لحفظ هيكل اللياقة الاجتماعية، نسي بعثها فلم تتذّكر عيناها دموعاً اضطرارية على الخدّين! ولو أنّ بعض من نسي..تذّكر!
وهي في تاسعتها والعشرين من خروجها إلى العالم بقدميها أولاً عبر جرح عملية قيصرية ذات ليل طويل، ليست نادمة على رحلتها حتى الآن، ولا حتى على الأخطاء الكثيرة التي اقترفتها الطبيعة بحقّها واقترفتها هي بحقّ الطبيعة، والتي جعلت منها الكائن الغريب الذي تكونه، الكائن المدهش تارة، المنفّر تارة أخرى، والمثير للتساؤلات وللكوارث في الكثير من الأحيان!
لكنّها _في ذات الوقت_ لا تحلم بألف عام قادم، ولا مئتين، ولا مئة، ولا خمسين,,
لا تحلم بأكثر من قدح نبيذ، يستحق كلّ ما فيه من متعة حتى آخر قطرة ملتصقة بزجاج الكأس..
أو أكثر من وميض، وشهاب عابر تتعلّق بذيله..
هي تحلم فقط، بأصداف قليلة يغسلها البحر..على مهل..صدفة صدفة، ثم يعيدها إلى بطنه قصّة قصّة، يرويها الموج لبحّارة عابرين يلقون شباكهم ليصطادوا أسماكاً وأحلاماً وذكريات...
وهي، لا تتوقف عن الحلم، طالما لم تتوقف عن الحياة..

توما
13-11-2011


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق