الجمعة، 4 نوفمبر 2011

...عجين...



أصبّ الزيت بيد فوق اليد الأخرى الغاطسة في كوم من الطحين، وأعجن..
أعجن أحلاماً بطعم القرفة اللاذع وأضيف رشّة زنجبيل، كمشة زبيب، وكوب لوز مكسّر، وأصبّ كأساً من أولّ المطر أذبت فيه ملعقة صغيرة من غبار روحي.
أعجن وأعجن، ثم أفرد العجينة لترتاح، وألعق ما علق بأصابعي منها، فتتسرّب اللوعة إلى مستقبلات الطعم الحسيّة في لساني، ويسيل لعابي لذّة !
للحزن طعم آخر لمّا تكون أنت سببه...
وللخيانة، وقع الإعصار الذي يخلع الروح من جذورها، لمّا تكون أنت الخائن، لكنّها_الخيانة_في هذه الحالة فقط، لها مبرّرات كونيّة لا تقبل الجدل، وقداسة غيبيّة لا يجوز التشكيك فيها، وأسباب إلهيّة أكبر من أن أفهمها، أنا الضعيفة الإيمان، الذئبة الضائعة عن حظيرة الإله، والتي رغم أنّها ذئبة تحسّ في أعماقها بالذنب كلما التهمت بشهية لحماً كان مثلها على قيد الأمل يوماً، إلّا أنّ شعورها بالذنب لن يبرّرها يوماً في عيون الخراف المذبوحة، وسيبقيها مخلوقاً خارجاُ على القانون، لن يصير أليفاً يوماً، وحتماً، ذاك سبب كاف، كي لا تمتعض الذئبة الغريبة الأطوار، من حكم القدر العادل!
كرات صغيرة من حبّ وألم وغضب وفرح وحريّة في الوقت ذاته، أدوّرها بين راحتيّ..
قطعة فقطعة أسرقها من جسد العجينة اللزج، ثم أضغطها على السطح المعدنيّ البارد لصينية الخبز، فترتعش! أقسم ليمونة إلى نصفين، وأعصر النصف الذي يحفظ اسمك، دمعة دمعة، فوق كلّ قطعة عطشة تتمددّ بصمت، وتتأملّ آخر لحظات اللين في حياتها الخاطفة، قبل أن يلفحها وهج الفرن الساخن، ويحيلها إلى قمر كامل، صلب وهشّ في آن واحد، يتفتتّ بسهولة في الأفواه التي جذبتها الرائحة..الأفواه الجائعة للحبّ والحلم...
أحياناً، أتساءل، ماذا يضير الحياة، لو كان العجين عجيناً فقط، لا ماض وذكرى وغدّ وأمل؟
لو كان قلبي عضلة فقط، تمارس واجبها اليوميّ، دون أسئلة، كعامل ملتزم، متفان في الأداء، بلا طموح سوى أن تعود الدماء أخيراً إليه!
قلبي الذي أبحث عن متسوّل يقبل حمل عبئه عنّي مقابل صدقة مجزية، ولا أجد! و أفكرّ برميه _كطفل تخلّت عنه أمّه_ على عتبة ملجأ ما، فقد يجد يوماً من الأيام من يغامر ويتبناه، ويحظى بحلمه..
وأكمل أنا الرحلة دونه، دون خيبات متلاحقة، دون توقعات، بلا ألم أضلاع مزمن من تكسّر موج النبض الهادر عليها، دون أن تفهمه، أو تطلقه عبرها كعصفور، إلى سماء سيضيع فيها ويتشرّد ولا يجد مكاناً ليضع عليه رأسه المتعب، لكنّها  تغويه، وتثير كلّ "نانوغرام" أدرينالين في دمه، وتجذبه كمغناطيس، لا تجد _أمام قدرته_ قطعة الحديد الصغيرة مفرّاً أو ملاذاً منه، إلا إليه..

ماذا يضير الحياة، لو كنت مواطنة مثالية في عالم من قضاء وقدر، لكلّ ما يزعجني، ما يغضبني ويثير حفيظتي، سبب مقنع ما، مجهول ربما، لكنّه مقنع ومنطقيّ إلى حدّ كبير! ولهذا العالم ربّ ينظّم أموره، ويوازن معادلات الحرب والسلام فيه، معادلات القوة والضعف العادلة بطريقة ما، ومعادلات الفقر المدقع والغنى الفاحش، والمرض والعافية، وكلّ ذاك الظلم غير المبرّر أمام جثمان العدل المقدّس!
ماذا يضير الحياة، لو أنّني لا أحلم كثيراً، ولا أفكّر بكلّ ما لا يعنيني، وكلّ ما يعنيني، وأترك الحياة تلمّ أشلاءها بنفسها كأيّ أرملة ثكلى، استسلمت لإرادة الغيب..والغباء!
ماذا يضير الحياة، لو أنّني لا أرى في الآخرين أكثر مما يرون هم في أنفسهم..لو أنّني أخلع عن عينيّ نظارتي الثلاثية الأبعاد وأرى فقط بعدي الحياة الجامد اللذين لا يحتملان التأويل ولا يخضعان للخيال، ولا أمعن كعادتي في رسم الغيوم على سماء ممعنة في الزرقة والملل، ومحاربة طواحين هواء تطحن آخر الأمر أوهامي المجنونة بلا رحمة..
لو أننّي فقط، كنت قد درست مبادىء الاجتماع الخاصّة بالمجتمعات المدنية، أسس الذوق العام، والحدود المسموحة للإبحار في مياه الأحلام الإقليمية!
ولو أنّك فقط لم تتكرّم لتدنو إلى قاع المدينة أنت الساكن هناك في الجبال وبقيت مجرد علامة تعجّب تثير أكثر من علامة استفهام..
لو أنّني، لا أحلم كثيراً خارج أسوار المعتاد، فأعود آخر النهار سليمة الركبتين والكاحلين، بلا كدمات ولا خدوش ولا آثار لانتصار الحياة الساحق عليّ، وهزيمتي المعلنة في كلّ مرة أمام ذكرى أريد كثيراً أن أنساها وأخاف كثيراً أن أنساها ...
ماذا كان يضير الحياة، لو أنّ العجين، يبقى عجيناً فقط؟؟؟
ولو أنّها اليوم فقط ما أمطرت.؟!

توما
4-11-2011
  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق