الأربعاء، 16 نوفمبر 2011

...ما أحلى السما...



تنظر إليه..طفلها الوحيد الذي لا تذكر متى كبر هكذا فجأة..
يمسك يدها، يضمها بين يديه، ثم يضغطها على خدّه، ويرضع حناناً يأبى القلب الفطام عنه.
وحيدين، هو وهي، خاضا الرحلة..رفيقين يحنو أحدهما على الآخر، ويغضب أحدهما من الآخر، ليتصالحا قبل مغيب شمس أخرى على غضبهما، والآن إذ يهمس لها كبدها أنها لن تنجو من فخّ القدر الصدىء، تسحب يدها من بين يديه، تترك اللوعة تحرق أناملها، والشوق يأكل قلبها قطعة قطعة، حجرة حجرة..تماماً كما فعلت أولّ يوم ذهب فيه للمدرسة، ومرّغ جسده بالتراب أمامها وملأ الدنيا بالصّراخ كي لا تتركه، فالتفتت قبل أن تسيل أولى الدمعات على خدّيها، ومضت عائدة إلى البيت، وعدّت الساعات، حتى عاد إلى حضنها، بابتسامة ونظرة عتاب!

لكنّها هي من سيمضي هذه المرة، ويطيل الغياب، وعليها أن تعتاد أنّها لن تعتاد يوماً فراقه، وأنّ كلّ دمعة ستسيل على خدّيه، ستحفر أخدوداً في خدّيها..لذا فثمّة درس أخير لا بد أن تلقّنه له، درس أخير في الحبّ، في المودة، وفي المسؤولية.. وعليها لكي يتعلّم أن تكون قاسية عليه كما على نفسها، عليها أن تترك في قلبه مساحة جفاء تملأ ثلاث حجرات من حجرات القلب، فلا يبقى للحزن فيه سوى حجرة واحدة، ستملؤها_في غفلته_ ببحيرة أمل تجعل الحزن أقلّ تركيزاً، وأخفّ وطئاً..
تسحب يدها من بين يديه، تسرق شيئاً من حرارة كفّه، وتخفيها في قبضتها!

**************************************
    
هو، إذ يدفع كرسيها المتحرك نحو الحديقة، يخزه قلبه، ويهمس له أنّها ربما تكون المرة الأخيرة التي سيرافقها فيها ليجلسا معاً، ويتقاسما دفء الشمس، لا لأنّ الشتاء قادم قريباً، بل لأنّه لمح حقائب رحيل مخبأة وراء ستار عينيها..
هو يعلم أنّ جسده سيبقى حيّاً ولو رحلت، لكنّه موقن أنّها هي روحه، وأنّ روحه بكلّ بساطة هي..
وهو_الشاب الجامعيّ المتعلّم_ إذ يؤمن أن النبض في جسد أجوف، نبض بلا معنى ولو استوفى كلّ الشروط الفسيولوجية، يؤمن أيضاً أنّ عزاءها يبقى في استمراره في خوض الحياة بكلّ حواسه، والتهامها بنهم..
ولأنّها فعلت دوماً ما توجّب عليها فعله لأجله، تماماً كاليوم العالق بذاكرته حتى الآن، الذي تركته فيه ممرّغاً بالتراب وراء باب المدرسة، بعد أن سقط وهو يحاول اللحاق بها في أولّ يوم مدرسيّ له، سلمّته فيه لسيّدة غريبة وحيداً وما التفتت وراءها، ليتعلّم كيف يجد شجاعته، ويتعلّم كيف يرى الحياة عبر عينيه لا عبر عينيها فقط... عليه هو الآن، فعل ما يتوجبّ عليه فعله لأجلها..
عليه أن يجعل من كلّ يوم إضافيّ يكسبانه، احتفالاً صغيراً بوجودهما معاً، دون مغالاة في المظاهر، ولا العواطف..
عليه أن يبتلع ضعفه، وخوفه من فراقها، ويدفن جزعه في مكان خارج مساحة جسده وروحه اللذين تجيد هي بنظرة واحدة مسحهما، وقراءة ما يقلقهما، الأمر الذي ظلّ طوال سنين عمره مصدر إزعاج له، لما فيه من اختراق لخصوصيته، وفضح لمواطن ضعفه!
ترى، بعدها، من سيقرأ ألمه؟ من سيحمل معه ضيقه وهمه دون أن يطلب منه ذلك؟

********************************************


يختاران بقعة ظلّ، ينظران إلى السماء، ويقضمان قرص الشمس الساخن على مهل..
"ما أحلى السما!" تقول له..
"عشانك صارلك أسبوع ما طلعت من الغرفة عالضو.." يقول معلّقاً على كلامها.
تبتسم، تخبىء تنهيدة بين شهيق عميق وزفير..تنظر إليه، طفلها الذي كبر، وصار شعره الكستنائي الفاتح أشعثاً، يغطّي جبهته، ما عادت تقدر أن تختار له هي تسريحة شعره، ولا موديلات ملابسه التي تجدها هي بعيدة عن الأناقة بدرجات..لكنّها تعلم أن فتيات كثيرات سيقعن في حبّه رغم ذلك، وأنّه سيجيد الاختيار، وسيحدّث فتاته عنها كثيراً، حتى تسأم منه الفتاة!

"وين سرحتي؟ولا أنا وجعتلك راسك بقصص الجامعة والعلامات؟" ييقظها من حلمها النهاريّ العذب.
تضحك، يضحك، وتملأ ضحكاتهما السماء..فيمنحهما الربّ يوماً إضافياً آخر...

توما     
17-11-2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق