السبت، 31 ديسمبر 2011

...لا ترحل!...


في اليوم الأخير للعام 2011، عام "ما يريده الشعب"،
سأعانق كلّ ساعة تمضي إلى الماضي بقلب مكسور،
سأسهر معكم، وأرفع كأسي لأطرقه بكأس عامر بالكرامة، وبالأمل!
كيف نقول وداعاً لعام توارثنا انتظاره عن أجدادنا؟
كيف نقول وداعاً لعام ضخّ الحياة في ترابنا، ومائنا، وسمائنا، وقلوبنا التي ولدت في مستنقعات من القهر واليأس والصمت والعفن؟
لا ترحل، أيّها العام الحرّ، ابق عاماً آخر، عامان، عشرة، ابق إلى الأبد مشتعلاً في كلّ  بيت، في كلّ شارع، في كلّ نبض يكبته طاغية!
لا ترحل، ليس قبل أن تنهي أعمالك المعلّقة، وتغسل الخريطة من آخر قطرة دم...

**************************************************
2011 عام سيتوقف عنده التاريخ، ويخلع قبعته، ثم يحني رأسه، قبل أن يقلب الصفحة.
من تونس، حيث تصاعدت الكرامة بخوراً من جسد محمد البوعزيزي، ولفحتنا عبقاً،
إلى ميدان التحرير، حيث غنّت مصر، ورقصت على نبض ثورتها، فطربنا معها وثملنا عشقاً،
إلى ليبيا، التي تطهرّت من شبح القذافي "زنقة" "زنقة"!
إلى اليمن، اليمن التي ولدت "توكل كرمان"، "بلقيس الثانية"، والتي رغم كلّ أسلحتها، لا زالت تناضل "بلا أسلحة"،
إلى سوريــــــا، التي أوجعتنا وتوجعنا كل يوم، سوريـــــــا الحبّ والياسمين الدمشقي، سوريـــــــا التي لن تركع، ولا "أسد" ولا أحد سيمنع نوافير مياهها من البوح حريّة..
إلى موريتانيا، فالمغرب، فالجزائر، فجيبوتي، فالصومال، فالسودان، فالعراق، والبحرين، وسلطنة عمان، والكويت، والسعودية، ولبنان، وفلسطين وهنا..الأردن..
الوطن الكبير كله، بل كلّ العالم كان يحلم هذا العام، يحلم بغدّ أفضل، ويحترق بحلمه، ويغني، ويرقص، ويصطبغ بالحنّاء والكرامة!
لكنّنا، رغم ثملنا فرحاً بما تحقّق، وأملنا الكبير بما ينتظر التحقّق، لا نزال داخل النفق المظلم نفسه، وكلّ ما رأيناه هو فقط بريق الضوء آخره، الذي تمتد أمامنا طريق طويلة لنصله، وتحدّيات هائلة. فمن سقطوا عن عروشهم ليسوا هم رأس الأفعى، ولا قمة الهرم الفاسد الجاثم على صدورنا.
عدوّنا الحقيقي هو هنا، في كلّ واحد فينا، في معتقداتنا المتوارثة أباً عن جدّ، في مفاهيمنا العنصرية، التي تنسف أشلاءنا إلى أشلاء أصغر، في انتماءاتنا العمياء، وأنانيتنا المفرطة، وعدم شعورنا بالمسؤولية الكافية تجاه مجتمعاتنا والآخرين الذين لا يمتون لنا بأيّ صلة قرابة.
عدوّنا الحقيقي هو في "مسيحي"، "مسلم"، "يهودي"، "درزي"، "شيعي"، "سني"، "بهائي"، "ماروني"، "أرثوذكس"، "لاتين"، "كردي"، "قبطي"، "أمازيغي"، "بدون"، وغيرها من التقسيمات الطائفية الدينية والطائفية السياسية.
نحن، ببساطة، كلّ هذا وأكثر!
وعلينا أن نتفق أننا سنختلف على كلّ شيء ربما، وأنّه لا بأس في ذلك. ثمة أمر واحد نريده جميعاً، أمر واحد أساسيّ، نريد واقعاً أفضل، ومستقبلاً أجمل للأجيال القادمة، نريد لكلّ فرد في هذا الوطن الكبير حياة كريمة، بما تعنيه "كريمة" من تفاصيل صغيرة وكبيرة، من تأمين صحيّ مجانيّ وتعليم مجانيّ، تعليم حرّ، لا تقيّده أنظمة سياسية ولا دينية، وفرص متاحة للجميع للثقافة الواسعة الشاملة عبر المكتبات الورقية والإلكترونية، ومساحات حرّة للتعبير، وللاعتقاد، وللتفكير، وللاختراع، والابتكار، والاختيار، والتجربة، والأهم من ذلك مساحة حرّة للاختلاف!
نريد ثورة تبدأ في داخل كلّ واحد فينا، ثورة في داخل عقل وقلب أبسطنا إلى أعقدنا، في داخل بائع الكعك وأستاذة الجامعة وسائق التاكسي والطبيبة والنحّات والكاهن والراقصة ورجل الأعمال والصحافية والحزبي وربّة المنزل والشيخ والمصرفي والنجّار والتربويّ والميكانيكي ومضيفة الطيران!
نريد ثورة تقلب مفاهيمنا الاجتماعية، تسقط "التابوهات"، وتتركنا نتعرّف إلى ملامحنا الجديدة ونستكشفها بكلّ راحة، وكلّ جرأة، دون افتراضات مسبقة ولا توقّعات، وبلا خجل!
نريد ثورة لا تكتفي بتنظيف الفساد الموجود في السلطة، بل تمتدّ بأذرعتها إلى كلّ شارع، وإلى كلّ بيت، وإلى كلّ فرد فينا، فتقضي على كلّ مظاهر الفساد الأصغر، ثورة تنظّف كلّ غسيلنا المتسّخ وتنشره ليجفّ تحت الشمس برائحة منعشة جديدة!
وإلا فما النفع من كلّ ما حدث، وأيّ قيمة لكلّ الدم الذي انسكب؟

**************************************************
في غمرة كلّ هذا، أجد نفسي خجلة من البوح بخساراتي الشخصيّة، أو مكاسبي، التي تبدو مجتمعة أصغر من دمعة على خدّ أمّ شهيد..
لكنّي، مثلكم، أريد أن أترك ما لي وما عليّ هنا، على هذه الصفحة الإلكترونية، قبل أن أفتح عينايّ على عام جديد، يغذّ الخطى إلى فجره متأبطاً أيامه المرّة والحلوة معاً في حقيبة واحدة.
كثير من الألم جلبه لي هذا العام، ربما أكثر من أيّ عام سبقه، على المستوى الشخصيّ..
لكنني، لست نادمة على شيء !
ربما أخطأت في حقّ آخرين، وربما أخطأوا في حقّي،
أخطأت بأن كنت صادقة أكثر مما ينبغي حسب المعايير الاجتماعية المقبولة، وأخطأوا بأن لم يكونوا صادقين بما يكفي حسب معاييري الخاصّة التي يعرفونها جيّداً..
وكان الأمر ليس بذات أهميّة _على ما يبدو_ بما يكفي لنتوقف ونتحدّث بشأنه، فمضينا كلّ في طريق، وتعارك كلّ منّا مع نفسه على حدّة، لكنّنا قد نلتقي، يوماً ما، بلا أسلحة، ولا ضغائن، ولا تروس، ونسأل بعضنا، كيف كنّا في غيابنا عنّا، ولا نستعيض عن الصمت الجارح بمجاملات مبتذلة، لا أدري أين يصنعونها لتناسب كلّ لحظة، كأي ّ معطّر رخيص للجوّ!
ببساطة، الفلّ الذي نوّر على أسيجة القلب، ثم سرعان ما قتله العطش، كان أكثر هشاشة من الصمود تحت وهج الشمس، والفلّ، الفلّ الرقيق العذب، زهر جبان..
 فهنيئاً للقلب بما خسره..لأنّ ترابه منذ الآن لن يرضى بأقلّ من شجرة تمدّ جذورها فيه حتى القاع، وترفع رأسها إلى أعلى!
وشكراً للفلّ _رغم ذلك_ على كلّ الفرح، والشغف، والسحر، واللهفة، والشوق، والأرق، والقلق، والحلم، والخيبة، والألم، والحرقة، والتوق الذي كان يوماً متقّداً!

**************************************************
هذا العام، خسرت كثيراً، لكنّي تعلّمت الكثير أيضاً!
تعلّمت أنّ أكبر الآلام، هو الألم الذي يصيب الذين تحبّهم ، ولا تقوى على شفائهم منه، فيصيبك في أعمق أعماقك، ويهزم تكبّرك..
تعلّمت، أنّ رجلاً لا يبكي، ولا يرقص،  عاجز عن أن يحبّ _بما يكفي_ أيضاً...
وأنّ من لا يجرؤ على سدّ الأبواب التي تأتيه بنسيم لا يشتهيه خوفاً من ضياع فرصة محتملة ولو في المستقبل القادم، ستبقى روحه دوماً في مهبّ الريح!
أنّ رجلاً يساوم نفسه على رغباتها الحقيقية ومشاعرها، ويخلق أعذاراً واهية ليغفر له الآخرون نفاقه، ويتذرّع بمجتمع يفرض عليه تصرّفات معينة، في الوقت الذي يستعمل تلك الذرائع نفسها ليدين المجتمع وتخلّف المجتمع، هو رجل مخصيّ، لن يستعيد يوماً ما فقده!
أن ثمة وجع أكبر من وجعنا دوماً، وإنّه لمن الغرور والأنانية وقلة المسؤولية أن نمنح ألمنا الشخصيّ مساحة أكبر من تلك التي يستحقها، مساحة تتعدّى على وجه العالم، الأكثر رحابة، وتغطي السماء الأكثر إشراقاً واتساعاً..
تعلّمت أن وزن الإنسان الحقيقي لا يقاس بالباوندات ولا بالكيلوغرامات، بل بالابتسامات التي يتركها على وجوه الآخرين دون مقابل، وبالمرات التي يعيرهم فيها كتفه ليميلوا عليها في أوج حاجتهم إلى سند!
تعلّمت أن الصديق الحقيقي، هو ذاك الذي لا ينتظر منك إذنك ليأتي ويعانقك في ضيقك، ولا ينتظر منك أن تطلب يده للمساعدة قبل أن يمدّها هو إليك ويسحبك بقوة من هاوية أوقعك فيها القدر أو أوقعت نفسك فيها مع سبق الإصرار والترصد، لأنه يعلم أنّ الصداقة وحدها رخصة تمنحه حقّ التدّخل في شؤونك الخاصّة، اتفاق ضمنيّ على أنّ "سيفان..سيفك"!                               ولأنّه مثلك يريدك أن تتدّخل لتنقذه وتعانقه وتكون معه في أشدّ لحظاته بؤساً، دون أن يطلب منك ذلك بشكل مباشر...
تعلّمت أن المنازلة غير العادلة تؤلم أكثر، وتكلّف أكثر، لكن ليس ثمة خيار آخر، سوى الاستمرار في القتال حتى آخر رمق، وآخر ذرة كبرياء، ولا..لا يكفي شرف المحاولة، وليس من مصير مقبول سوى الانتصار!
تعلّمت، أنّ أجمل ما في الحزن هو أنّه يجعلنا أكثر إنسانيّة..أكثر إحساساً، وتعاطفاً، وبذلاً، وعطاء..فليتبارك ذاك الحزن، وليرافق خطواتنا كظلّ، وليلد فينا الفرح مع كلّ ولادة جديدة ليوم أفضل...
وأنّ أجمل ما في السعادة، هو أنّها ليست باهظة الثمن، ليست خاتماً ماسياً، ولا سيارة فارهة.. فقد تكون مجانيّة كنزهة على الأقدام في الهواء الطلق، أو تحت مطر ناعم،                             قد تكون كوب قهوة ساخن، أو كتاباً جيّداً، موسيقى تستولي على حواسك، فكرة تلمع في رأسك، أو مجرد قبلة على الجبين...
تعلّمت أنّ ما يخذلنا هو توقّعاتنا دائماً، لا الأخرون..وأنّ الشخص الوحيد الذي علينا أن نبني عليه آمالنا وأحلامنا، هو أنفسنا، ووحدها عليها أن تتلّقى اللائمة أو الثناء على ما يحدث في النهاية.
وأنّ الصّدق له تكلفة باهظة في بعض الأحيان، لكنّه ينزل عن أكتاف الروح أثقالاً كثيرة، ومهما حدث آخر الأمر، سنجد طريقاً للاستمرار!

**************************************************
2011
سرقني القليل الكثير، لكنّه لصّ مبارك، ترك لي ما يفوق ما سرق قيمة،
خسرت فيه كثيراً وكسبت نفسي!
عام جديد، ونحن أكثر كرامة وحرية وحباً وفخراً وفرحاً...

توما
31-12-2011











ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق