مرتبكة كطفلة تجرّها أمها إلى المدرسة لأول مرة، مليئة بالترددّ والذعر لا يجيد الإختفاء في عينيها،
وقفت على باب غرفة الفحص السريري متلفعة بجلبابها البنيّ الطويل، وغطاء رأسها الأبيض
الذي يحاول أن يزيد على عمرها بضع سنوات وشيئاً من النضج دون أن ينجح حقاً في فعل ذلك...
أومأت لها بالدخول، وأشرت إلى كرسيّ لتجلس عليه، لكنّها فضّلت الوقوف.
نظرت إلى الطفل الذي كانت تحمله بين يديها، وسألتها: شو المشكلة؟
فنظرت إلى الطفل بدورها، وأجابت: ما بعرف...
فغيّرت صيغة السؤال: ابنك؟ ليش إجيتي اليوم عل العيادة؟
أجابت: عمتي (تقصد حماتها) بتقول عندو فتاق.
طلبت منها أن تضع الطفل على سرير الفحص وتكشف عن مكان الفتق، فشرعت في خلع ملابسه،
ثم قالت:
بس أنا ما بعرف وين محل الفتق!
سبقتني ممرضة العيادة في التعبير عن إندهاشها وعدم فهمها لما يحدث، وسألت الفتاة متعجبّة:
هادا ابنك ولا مش إبنك؟؟!
فصمتت الفتاة لبرهة، ثم قالت بعصبية:
ابن جوزي...
أمسكت ملف الطفل لأتأكدّ من اسمه واسم والديه، وسألتها عن اسمها، فتبيّن أنّها أمّ الطفل رسمياً!
بدأت بفحص الطفل سريرياً من رأسه حتى أخمص قدميه، ولم اجد علة واحدة ظاهرة في جسده،
فقلت لها: أنا مش شايفة فتاق ولا بمحل هلأ، بس لازم إنتي تكوني بتعرفي إذا في انتفاخ بظهر وبختفي
لما تغيري حفاضته أو أواعيه، عمرك لاحظتي هيك إشي؟
أجابت الفتاة ونهرين من الدمع يدفقان من طرفي عينيها: أنا ما بعرف، عمتي حكاتلي...
حاولت تهدئتها، سألتها إن كانت حماتها قد أشارت لها أو قالت لها عن مكان الفتق، فهزّت رأسها نافية.
سألتها عن عمرها، فأجابت: تمنتاعش.
وعمر زوجها، قالت: تنين وعشرين.
وإن كان هذا طفلها الأول، فهزّت رأسها بالإيجاب،
ترددّت كثيراً قبل أن أسألها عن علاقتها بزوجها، لكنّي تفاجأت بردّها السريع، كطلقة تنتظر حريتها
منذ زمن طويل، بعد أن ملّت الوقوف عند فوهة المسدس المعتمة الباردة!
قالت: كتير بنتزاعل، وأنا دايماً بحرد وبروح عند أهلي، وبترك الولد عند عمتي،
عشان هيك هي بتعرف عنو أكتر مني!
سألتها إن كانت قد أرادت الطفل من البداية، فأجابتني بشجاعة أحببتها:
أنا لساتني صغيرة وما بعرف أربّي طفل صغير، لمّا يبكي ما بعرف ليش ببكي،
ولمّا بسخن بخاف كتير، وبصير أبكي! طول ما أنا حامل فيو وأنا تعبانة، ولساتني تعبانة!
أطرقت رأسها، ثم شرعت في إلباس صغيرها على عجل...
تساءلت في نفسي إن كانت قد استمتعت أكثر في طفولتها بإلباس دميتها من إلباس طفلها الآن!
حاولت أن أقول لها أنّها المسؤولة عن طفلها، عن صحته وتربيته وتعليمه فيما بعد، أنّها الوحيدة
التي يحقّ لها معرفة تفاصيل جسده، خلق تفاصيل حياته يوماً بعد يوم، غزل أحلام مستقبله عنه
حتى يكبر ويغزلها بنفسه، اختيار طعامه ولباسه، أغنيته المفضّلة لديه لينام، اختراع الحركات التي
تضحكه، واللمسة التي يصحو عليها ليأكل وجبته، انّها الوحيدة التي لا بدّ يريد هو أن يغفو داخل
حضن رائحتها وإن كان غير قادر على التعبير عن ذلك!
لكنّ الكلمات توقفت واصطدمت بعضها ببعض محدثة أزمة سير خانقة في روحي، وغصّة في حلقي!
ماذا عنها هي، عن ما تريده لنفسها، عن أحلامها؟ ومن يحقّ له أن يحاكم طفلة على تقصيرها في تربية
أطفال سيفرضوا عليها الواحد تلو الآخر، كما فرض عليها ترك المدرسة في صفّها التاسع،
ثم فرض عليها الزواج من قريبها الطائش الذي لا يزال طفلاً هو الآخر!
أسمع وأقرأ كثيراً عبر وسائل الإعلام المختلفة عن حقوق المرأة، وحقوق الطفل،
وعن ألف برنامج يعملون على تنمية الأوضاع الاجتماعية للفئتين،
وأسمع وأقرأ أننّا وصلنا إلى مرحلة متقدّمة في هذين المجالين،
لكننّي وفي كلّ يوم أرى أطفالاً تسرق طفولتهم، ويزجّ بهم في عالم لا يفهمونه،
أطفالاً غير ناضجين مسؤولين عن إنتاج وإعداد الأجيال القادمة التي نعلّق عليها
آمالنا...في كلّ يوم أرى فتيات قاصرات مستهلكات جسدياً ونفسياً وفكرياً يحاولون
حمل الذين ولدوا _تحت غطاء الشريعة الطاهرة_ بطريقة صحيحة، دون أن يدركوا أنّ
ثمة قانون يمنع زواج القاصرات...كلّ يوم، وفي كلّ لحظة يولد طفل لا يجيد أحد تربيته من الأطراف
التي كانت سبباً في قدومه للعالم، وستكون سبباً في سوء صحته الجسدية، وسوء صحته النفسية، وبطئه
العقليّ، وتأخرّه الدراسيّ، وجمود فكره، وضيق عالمه وضيق أحلامه، وفقره المتوارث والذي سيعمل
هو بدوره على إوراثه لأطفاله القادمين بالطريقة ذاتها...حلقة تتكرر وتتكرر، ولا أرى أمامي سبباً مقنعاً
سوف يعمل على كسرها....
تحمل الصبيّة طفلها وتغادر العيادة، بعد أن طلبت منها أن تراقب طفلها بحثاً عن فتق ما في إحدى مناطق
جسده التي أشرت لها عليها، وأن تعود في أقرب موعد إن لاحظت شيئاً، أو أن تحضر معها حماتها العيادة
المقبلة لنتأكد من التشخيص.
أخرج وراءها لأستنشق شيئاً من هواء الربّ المجانيّ، وأراقبها تقف بانكسار منتظرة وسيلة نقل ما، تعيدها
إلى حيث ستستمر قصة بؤسها وتكبر يوماً بعد يوم فيما تنسحق روحها قطعة قطعة...
أعود، وأنادي على المريض القادم...قصة أخرى وراؤها قصة وغصّة جديدة في كلّ مرة...
توما
23-12-2010
شغلكم بعل القلب عفكرة ... جبتيلي احباط بهل قصه
ردحذفالله يعين العالم
عموما طريقة سردك جدا ممتعة يا بنتي وتعبيراتك كويه كويه
والله كلامك مزبوط، هو بعل القلب، بس لا تخاف القلب صامد وبعدو ما احترق، كلو بساتين وورق، وعالورق بتنبت أفكار وأفكار.. (هادا جزء من أغنية لمروان عبادو)!
ردحذف