الأربعاء، 19 أكتوبر 2011

...مستحيل...



أتصلّ بها لأذّكرها بموعد صورة ال"ماموجرام" التي عليها أن تجريها للمتابعة الدورية، مريضة تضطرني في كلّ مرة لملاحقتها لإجراء ما هو ضروريّ لصحتها حسب المنطق العلميّ والطبيّ الصحيح..
سيّدة في أول أربعينياتها، متزوّجة، وأمّ لستة فتيات، تقع أعمارهن بين أوائل العشرينيات وبضع سنوات لا تتجاوز عدد أصابع يد واحدة...
أذكر لما دخلت العيادة أولّ مرة، ولم أرى منها سوى جسداً ممتلئاً ملتفاً بعباءة سوداء، ونقاباً يخبىء كلّ الوجه ما عدا عينيها، تصطحبها أكبر وأصغر بناتها. جاءت تشكو من كتلة في إحدى ثدييها، كانت قد أهملتها لمدة منذ الزمن، لكنّ الكتلة كبرت في الحجم، وأصبح من الصعب عليها تجاهلها أكثر من ذلك. أجريت لها فحصاً سريرياً، وكان الانطباع الأولّ لديّ أنها كتلة تخبىء خبثاً في ثناياها، فبعثتها لإتمام باقي الفحوصات اللازمة لتشخيص طبيعة الكتلة وهويتها، من صور شعاعية وفحوصات مخبرية، وفحص لنسيج الكتلة. ألمحت لها بشكوكي، ثم أخبرتها أن تأتي بعد بضعة أيام  للإطلاع وإجراء اللازم. تقبّلت الموضوع برحابة صدر، ولم تتعمّق كثيراً في التفكير، ولم تبالغ في التعبير عن مخاوفها.
مرّت الأيام القليلة التالية، وأتى فحص أنسجتها موافقاً لتوقعاتي الأسوأ.
أخرجت رقم هاتف المريضة من السجل، واتصلّت بها لأبلغها بضرورة مراجعة المستشفى لعمل ما يلزم لها.
طبعاً، المريضة التي كانت تتهرّب من شكوكها منذ مدة شهور عديدة، حاولت أن تتهرّب مجدّداً، لكنّها آخر الأمر جاءت، واستمعت لشرحنا لها عن طبيعة مرضها، وعن ضرورة الحاجة لاستئصال ثديها المصاب مع الغدد الليمفاوية تحت الإبط.
سألت عن الحلول الأخرى، حاولت إقناعنا بالعدول عن فكرة استئصال ثدييها كله، وظلّت تردّد:
"مستحيل! مستحيل!"
وتلوّح بإصبعها وتهزّ برأسها غير موافقة.
ذكرّتها ببناتها، وبضرورة أن تكون بصحة وعافية كيّ تراهن يكبرن أمامها، وكي تستطيع أن تؤدّي واجباتها كأمّ تجاههن، فلان قلبها، وانكسر صوتها، وطريّ لسانها.
طلبت مهلة لتفكّر، وطلبنا منها الحديث مع زوجها في الموضوع، فلم تمانع.
مرّت فترة اتخاذ القرار، وجاءتنا راضخة لمصيها، وسلّمت نفسها لأيدينا.
تمّ إجراء الجراحة، ولمّا زرتها للاطمئنان عليها أولّ يوم بعد العملية في سريرها، كانت محاطة بجيش من الصّبايا، بعضهن منفقبّات وبعضهن محجّبات، والصغيرة التي أكملت أعوامها الخمس قبل بضعة أيام وحدها تتهادى بدلال، شعرها مرخيّ على أكتافها، وابتسامتها تضيء وجه أمّها، المتألمة من جرح جسدها وجرح روحها في آن معاً.
مرّت فترة التعافي بصعوبة، فلم يكن سهلاً عليها أنّ تتقبّل ما حدث، ولم يكن سهلاً عليها أن ترى نفسها ناقصة جزءاً منها، جزءاً يثير اعتدادها، ويزيد ثقتها بنفسها وأنوثتها وسطوتها. كانت تحسّ بأنّها قد فقدت توازنها، بأنّها فقدت ملائمتها لمفهوم المرأة الحقّة، كانت تحسّ أنها فقدت هويتها، وأنّها كائن فضائيّ غريب الشكل، بشع المظهر هبط على الأرض للتو، فلم يجد أحداً يتقبّله، ولا تقبّل هو نفسه!
لكنّها مرّت، بشكل ما، بعد وقت طويل..ولو إلى حدّ ما، قبل أن نفاجئها بتحويل للعلاج الكيماوي والشعاعي، أثار استنكارها وحفيظتها، وكان على وشك أن يشرع أظفارها في وجوهنا لشدة رفضها لمجرد الفكرة، رغم أنّنا كنّا قد أخبرناها باحتمال حاجتها لمثل ذاك العلاج بعد إجراء العمليّة.
"مستحيل! مستحيل!"
كان ردّها مرة أخرى، وهذه المرة، بلغ بها الأمر أنّها فرّت من العيادة دون أدنى تردّد!
عاودت الاتصّال بها مرّات لإقناعها، وكانت تجيبني:
"دكتورة، صدري وشلتوا، وهلأ بدكم تاخدو شعري كمان؟ كيف بدي أضّلني مرة أنا؟ كيف جوزي بدو يطلّع فيي؟ أو يقرّب عليّ؟ كيف أنا بدّي أطلّع عحالي بالمراية؟ كيف بس؟"

أحاول تهدئتها، وإلقاء محاضرة شبه دينية عليها، عن كيف أنّ الله يمتحن عباده الصالحين، المؤمنين، ليختبر صبرهم، وإيمانهم به في السرّاء والضّراء، أخبرها أنّ مقابل كلّ عذابها سيعوّضها الله خيراً، وأنّ هذا دفع بلاء عن عائلتها! طبعاً ألقي كلماتي هذه وأنا أكاد لا أؤمن بحرف واحد مما قلته لها، ولكنّني أجد نفسي مضطرة للتحايل عليها كأنّي أتحايل على طفل صغير..

"دكتورة، بنتي الصغيرة بس شافتني بالبيت انتبهت وسألتني، ماما وين راح هادا، وأشرّت على صدري! كيف بدك إياني أفهمها بكره وين راح شعري كمان؟؟؟"
يغمرني صوت نحيبها بالأسى، لكنّني لا أفقد الأمل في إقناعها، وألًح عليها حتى تبدأ بالاقتناع!

وتبدأ مشوار العلاج بالكيماوي والأشعة، وتتصلّ بي بعد جلساتها لتخبرني كم تحسّ بالإنهاك، وأنّها تقضي معظم أيامها نائمة، ولا تشعر بأنها قادرة على الاستمرار، خاصة أنّها تشعر بالعجز أمام أبسط مطالب أسرتها، وأصغر المسؤوليات.
أحاول مدّها بالعزيمة، وأكرّر على مسامعها أنّ هذه فترة عابرة فقط، وأنّها ستتعافى كما تعافت من قبل، وتعود لإكمال حياتها الطبيعية، وتستعيد نشاطها وقوتها.
تضحك بوهن..
"ليش ضلّ إشي طبيعي يادكتورة تيرجع، مستحيل!"

مرّت عدة أشهر على عمليتها، وهي لا زالت تخضع للعلاج الكيماوي، واليوم أتصّل بها لأذكرها بموعد مراجعتها، وأسألها إن كانت تستطيع الحضور اليوم للمستشفى.
تجيبني بصوت "معجوء" بالفرحة!
"دكتورة الله يخلّيك اليوم ما بقدر!"
أسألها إن كانت متعبة من جلسة العلاج الأخيرة.
تضحك ، تضحك كطفلتها التي في الخامسة.
"دكتورة احزري أنا وين؟"
ولا تنتظرني لأحزر!
"أنا عند الكوافيرة، دبرّنا باروكة، واليوم عرس أخوي، بالله عليكي يا دكتورة تشرفيّنا!"
أبتسم، وأغرق في ابتسامتي، ما أجمل أن ينتصر الإنسان على نفسه، وما أقدس الفرح لما يدوس الحزن برجليه ليصنع خمراً!
 

توما
13-10-2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق